صراع أزلي
من الناحية الخبرية الصرفة فاتفاقية التطبيع الموقعة بين دولة الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل تحت الرعاية الأمريكية والمسماة اتفاقية سلام ليست خبرًا، ببساطة لأن التطبيع بين الإمارات وإسرائيل بدأ عمليًا قبل عقدين تقريبا عندما بدأت وفود رسمية إسرائيلية تزور الإمارات وتشارك في المؤتمرات والملتقيات الرياضية والثقافية والسياحية.
إذن فهذه الاتفاقية كانت خبرًا شائعًا ومعروفا ولم تكن مفاجئة لأحد، ولا يمكن أن نسميها اتفاقية سلام لأنه لم يثبت في أي يوم من الأيام أن هددت الإمارات سلام وأمن إسرائيل. بالعكس أمن الإمارات هو المهدد، ولذلك يعتقد حاكم أبو ظبي أن إسرائيل يمكن أن توفر لبلده الحماية من الأخطار المحدقة به.
ما قامت به الإمارات هو أنها أخرجت إلى العلن ما يقوم به البعض سرًا لمقايضة بقائهم في الحكم، فغير خاف على أحد العلاقات التي تجمع إسرائيل بقطر وبإيران التي تبدي في العلن أنها تتمنى زوال إسرائيل فيما تتعاون أمنيًا معها. أما تركيا التي هدد رئيسها بالتفكير في إغلاق سفارة بلده في أبو ظبي بسبب تطبيع الإمارات مع إسرائيل فلديها سفارة إسرائيل في أنقرة وقنصلية إسرائيل في إسطنبول ولديها اتفاق للتجارة الحرة مع إسرائيل واتفاق تعاون عسكري معها، وكان الأحرى بالرئيس التركي تجميد هذه الاتفاقيات التي وقعها بلده مع إسرائيل حتى يكون لغضبه مما فعلته الإمارات معنى.
الجديد في الموضوع هو إعلان حاكم أبو ظبي أن الاتفاقية تنص على تخلي إسرائيل عن ضم الأراضي الفلسطينية، وهو ما نفاه نتانياهو مؤكدًا على أن الاتفاق نص على تأجيل الضم وليس التخلي عنه. وربما كانت خطة نتانياهو هي أن يشرع فعليًا في ضم الأراضي الفلسطينية بعدما تكون الدول العربية الأخرى قد انضمت لصف المطبعين القادمين، أي السعودية والبحرين والسودان وسلطنة عمان.
الآن الهدية الأهم التي تنتظرها الإمارات على هذه الخطوة هي نقل قاعدة العيديد الجوية الأمريكية من قطر نحو الإمارات، هكذا تكون دول الحصار قد نجحت في رفع الحماية الأمريكية عن الدوحة لعزلها والإطاحة بنظامها.
وبالنسبة للإمارات فمشاريعها مع إسرائيل تمتد نحو الثلاثين سنة المقبلة، والهدف اليوم هو توطين بضع آلاف من اليهود الإسرائيليين الأغنياء في دبي ومنحهم الجنسية الإماراتية على أمل أن ينجبوا الجيل الأول من اليهود الإماراتيين، على شاكلة اليهود المغاربة. ولهذا سمعنا الأكاديمي الإماراتي عبد الخالق عبد الله المقرب من حكام أبو ظبي يطالب بترحيل ثلاثة ملايين وافد بدولة الإمارات لتعديل ما سماه خلل التركيبة السكانية. هكذا ستصبح للإمارات جالية يهودية تحمل الجواز والجنسية الإماراتية مثلما للمغرب جاليته اليهودية التي تحمل جوازه وجنسيته. وهذا يندرج ضمن ما يمكن أن نسميه “العقدة المغربية”، وتفسير ذلك يوجد في علم النفس وليس في علم السياسة.
نتانياهو ماض في تطبيق مشروع صفقة القرن، وقد شكل الحكومة التي ستسهر على تطبيق هذا المشروع، وما انفجار مرفأ بيروت والانتفاضة الشعبية التي تلت ذلك مطالبة بنزع سلاح حزب الله الإيراني، واتفاقية السلام بين الإمارات وتل أبيب سوى خطوات في هذا الاتجاه.
موقف المملكة المغربية كان واضحا منذ الأول، بحيث رفض المغرب الانخراط في هذه الصفقة التي تلغي جميع حقوق الشعب الفلسطيني وحقوق العرب والمسلمين في القدس، كما رفض جميع الاتفاقيات التي تستثني الطرف الأهم في أية معادلة سلام، أي الفلسطينيين.
والذين يقولون إن المغرب سوف يتعرض لضغوطات من أجل توقيع اتفاقية تطبيع مع إسرائيل يتجاهلون أن المغرب يتعرض منذ سنوات طويلة للضغط والابتزاز بملف الصحراء المغربية من طرف قوى دولية، سواء داخل الأمم المتحدة أو البرلمان والاتحاد الأوربي، لكنه لم يستسلم للابتزاز وتحدى دول كبرى وعاملها بالمثل. لذلك فالضغوطات سلوك تعود عليه المغرب، ومن المنتظر أن يرفع نتانياهو من منسوب هذه الضغوطات على المغرب.
والواقع أنه منذ سنوات يحاول نتانياهو التقرب من المغرب من أجل إحداث اختراق وتطبيع رسمي بين الرباط وتل أبيب. لكن محاولاته كانت دائما تبوء بالفشل، ولعل الجميع يتذكر عندما ألغى الملك محمد السادس في عام 2017 مشاركته في قمة إقليمية خاصة بغرب إفريقيا لتفادي لقاء نتانياهو.
ومؤخرا في بداية الحجر الصحي كانت آخر محاولة تقرب من المغرب عندما طلب إرسال طائرة تابعة لشركة العال الإسرائيلية لترحيل اليهود المغاربة الذين عبروا عن رغبتهم في العودة إلى إسرائيل بعدما تفشت في طائفتهم كورونا بسبب مناسبات دينية يهودية حضروها رغم منع الدولة لمثل هذه المناسبات، حيث كتبت الصحافة الإسرائيلية أن يهود المغرب كانوا الأكثر استهدافا من كورونا ضمن كل يهود العالم. وفقد عمير بيريز وزير الدفاع الأسبق لوحده ثلاثة من أفراد عائلته في الدار البيضاء، وتوفي حوالي ثلاثة عشر آخرون يعدون من كبار أحبار ومؤرخي وحاخامات اليهود بالمغرب.
لكن المغرب رفض أن تحط طائرة شركة العال في مطار الدار البيضاء، فحاولت جهات متسرعة في الإمارات بتنسيق مع جهات في تل أبيب أن تلعب دور الوسيط خلف ظهر المغرب وأن ترحل في طائرة تابعة لطيران الإمارات مواطنين إماراتيين عالقين بالمغرب ومعهم اليهود المغاربة، لكن المغرب رفض وبقية القصة وما رافقها من طنين للذباب الإلكتروني تعرفونها. إلى أن أرسل ملياردير يهودي اسمه شيلدون أديلسون تصنفه مجلة فوربس في الرتبة الثامنة ضمن أغنى أغنياء العالم لديه جمعية أسسها مع زوجته اسمها أديلسون فوندايشن هي التي تكلفت بنقل اليهود المغاربة نحو تل أبيب عبر طائرته الخاصة انطلاقًا من مطار فرنسا الذي وصلت إليه طائرة تابعة للخطوط الفرنسية أقلعت من الدار البيضاء وعلى متنها اليهود المغاربة رفقة مسافرين فرنسيين آخرين .
هذا الملياردير صديق حميم لنتانياهو، وهو يعتمد عليه كثيرا لمرافقة تنزيل صفقة قرنه التي ستمول أغلب أقساطها دول عربية شرق أوسطية.
في إسرائيل كان دائما هناك صراع بين اليهود الأشكناز وهم يهود الشتات الذين اجتمعوا في الإمبراطورية الرومانية في نهاية الألفية الأولى، وبين اليهود السفارديين، وهم اليهود الذين استوطنوا شبه جزيرة إيبريا قبل سقوط الأندلس، وعاشوا مع المسلمين في شمال أفريقيا، والمغرب خصوصا.
الأشكيناز يعتبرون أنفسهم أحق بالسلطة لأنهم هم من تعرض للاضطهاد على يد المسيحيين الأوربيين وخصوصًا محارق النازية، فيما السفارديون عاشوا دائما في كنف المسلمين بسلام.
ويبدو من خلال الحكومة التي شكلها نتانياهو أنه يعول على دعم اليهود السفارديين الذين ولدوا لآباء عاشوا في المغرب ودول عربية مسلمة من أجل استكمال مخططه التطبيعي مع الدول العربية التي ما زالت تمانع.
وفي موضوع القدس تحديدا فالمغاربة، عكس الشعوب الأخرى، لديهم حساسية خاصة تجاهه. فالمغاربة لديهم حي في القدس يسمى حارة المغاربة وباب يحمل اسمهم يخلد مجيئهم لنصرة القدس أيام صلاح الدين الأيوبي الذي أوقف الحي عليهم.
كما أن أكبر المسيرات نصرة لفلسطين كانت تلك التي نظمت في المغرب. إذن فقضية فلسطين والقدس متجذرة في وجدان المغاربة وليست مجرد عاطفة عابرة، لذلك يحدث أن تجد مغاربة فلسطينيين أكثر مِن الفلسطينيين أنفسهم. تماما مثلما يحدث أن تجد عندنا صهاينة أكثر صهيونية من الصهاينة أنفسهم.
الفرق بين الأمس واليوم هو أن الشعوب لم تعد تجذبها المسيرات والشعارات، فبسبب الجائحة أصبح الهدف الأهم هو البقاء على قيد الحياة وتجنب الإصابة بالفيروس والبحث عن طريقة لتحمل تداعيات الأزمة الاقتصادية التي تسببت فيها الجائحة.
علينا أن نفهم شيئا أساسيا وهو أن الصراع في فلسطين خصوصًا والشام عموما ليس وليد هذا القرن بل هو صراع أزلي، وسيبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فتلك الأرض هي مهبط الديانات السماوية وأرض الأنبياء. وسيشهد التاريخ أن الفترة التي يحكم فيها الإسلام القدس يسود السلام وتتعايش في كنفه اليهودية والمسيحية، تماما كما حدث خلال ثمانية قرون بالأندلس.
وأخيرا علينا أن نعي حقيقة مهمة وهي أن الصراع في فلسطين ليس صراعا سياسيا أو اقتصاديا، رغم أنه يبدو كذلك، بل إنه صراع ديني أولا وأخيرا، وسيظل كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.