شوف تشوف

الرأي

صدمة الحداثة وذيولها

خالص جلبي
أمام صدمة الحداثة والوضع المتردي في العالم الإسلامي فقد قفز إلى السطح مغامرون جريئون يحاولون النهضة بالعقل ولكن بمنافذ شتى؛ منهم الكماليون (أتاتورك) الذين قاموا بمسح الذاكرة التركية مع حذف الحرف العربي (كانت التركية تكتب بالحرف العربي وثلث اللغة التركية بكلمات عربية)، فلم يحرقوا الكتب في الساحات العامة كما فعل النازيون، بل جعلوها تتآكل فوق الرفوف، كمن يستيقظ فلا يعرف من هو، مذكرا بقولة ملكة سبأ عن عرشها كأنه هو. ومنهم بالاتجاه المعاكس من حاول عن طريق اللعب بالنص القرآني والحديث بأنه يحتوي أحدث المعلومات، وأنه سبق العلماء في اكتشاف سرعة الضوء (أية خمسين ألف سنة) وهم أبطال الإعجاز العلمي، وهناك طريقة أخبث مما سبق وهي الالتصاق بالنص القرآني، ولكن مع تفريغ معناه وهو أسلوب الشحرور الشامي الذي لمعته الإنفوميديا فخرج على الناس أنه مارتن لوثر الجديد الإسلامي أو كانط العربي. ولأن الرجل لم يعد نكرة، بل تتبعه في المغرب جماهير واسعة، فوجب شرح الأسلوب الثالث كما ذكرنا لنعرف مقدار خدمته للنص القرآني من تدميره. وتقع عيني أحيانا على كتابات تتسم بالرصانة والاتزان، فأنقلها للقارئ المغربي المتعطش للمعرفة وبين يدي الآن نص لـ(باسل الطائي) الذي نشره في موقع الحوار المتمدن، وهو موقع يساري علماني. يقول الرجل عن الشحرور: (اعتماده مبدأ ثبات النص وحركة المحتوى)، فهو في هذا يعطي نفسه حرية تفسير النص بما يتناسب وروح العصر وفق فهمه. وهاهنا نقف عند نهج خطير. ذلك أننا نكون أمام طريقين لا ثالث لهما: التفسير منطلقين من مبدأ أن (القرآن حمال وجوه)، ملتزمين بما تقدمه اللغة حقا من معان ودلالات المفردة. والثاني هو التفسير بإزاحة معنى المفردات إلى معان أخر بحسب الهوى، حتى لو تطلب ذلك إخراجها من دلالتها اللغوية المعروفة أو من سياقها بدعوى كون النص مطلقا. وهذا مما يمكن أن يقود إلى تجديف وحكم بالهوى وتحريف للكلام عن مواضعه.
ومن الملاحظ أن شحرور يسلك كلا الطريقين، وهذا ما يجعله يقع في المحظور. ومن أمثلة ذلك تفسيره الآية: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ}، فهو يرى أن النساء هنا تعني الأشياء المنسأة، أي المؤجلة، ثم يصرف معنى المؤجلة إلى الجديدة حتى يصير المعنى عنده: زُين للناس حب الشهوات من الأشياء الجديدة وهذا من العجب العجاب !
وفي هذا الفعل وأمثاله يكون الدكتور شحرور متبعا لطريقة حاخامات بني إسرائيل، إذ حرفوا الكلم عن بعض مواضعه والأمثلة المعروفة عنهم عديدة. ولأجل تبرير إزاحة المعنى هنا يحتج الدكتور شحرور بعدم تناسب خلط النساء مع الخيل المسومة والأنعام. من جانب آخر، فإن الدكتور شحرور يدعي بأنه يقاطع الآيات ببعضها ليستخرج المعنى الدقيق المقصود، وليته يصمد مع هذه القاعدة الجميلة الأصيلة في فهم القرآن. ولا أدري ما يكون احتجاجه، إذ يقرأ الآية {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج: 18]، فهاهنا خلط التنزيل بين الناس والدواب، بل قدم الدواب على الناس.
مثال آخر في مشكلة التعارض مع جاء في أحاديث النبي عن أركان الإسلام وأركان الإيمان. وهذه مشكلة لا يقدم لها شحرور حلا، فهو رغم نفيه أن تكون إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت أركانا للإسلام، بل يجعلها أركانا للإيمان، فإنه يذكر أحاديث للنبي من البخاري ومسلم تناقض ما يذهب إليه، دون أن يحل المشكل الظاهر هنا. وهذا ضعف في طرحه وأمر كان عليه أن لا يقع فيه دون بيان.
وفي هذا الصدد فإن تعريف المسلمين عند شحرور يشمل كل من يؤمن بوجود إله، دونما اعتبار لمضمون هذا الإيمان ولا لنوع الإله. وشحرور يعتبر جميع النصارى مسلمين وجميع اليهود مسلمين، ثم يقفز ليشمل بهذا المفهوم المجوس والبوذيين. وهذا أمر غير مقبول، ليس لأننا لا نقبل الآخر، بل لأن تعويم (الإسلام) بهذه الصورة غير صحيح من زاوية شروط المصطلح نفسه. وإذا كان النصارى الموحدون أتباع عيسى عليه السلام وحوارييه مسلمين، فإن هذا الخصوص لا يعمم إلا وفق شروط وهي أساسا الإيمان بوحدانية الله وتنزيهه.
ومثال آخر في هذا السياق ادعاؤه أن (الصلوة) المكتوبة في المصحف بالواو هي غير (الصلاة) المكتوبة بالألف. فهو يصنف الأولى على أنها الصلاة الطقسية بحركات القيام والركوع والسجود، بينما يرى أن الثانية هي الدعاء دون الحركات الطقسية. وفي هذا ورطة. فإن تدقيق آي التنزيل ينفي هذا المذهب، ومثال ذلك آية سورة التوبة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103]، تنفي ما ذهب إليه شحرور لأنها مكتوبة بالواو، ولو صح تشخيص شحرور للرسم لكانت جاءت بالألف، لأن صلاة النبي هنا دعاء لهم. فضلا عن أن ادعائه ذاك يورطه في مسألة وقفية الرسم العثماني لخط المصحف وهذه قضية شائكة. من جانب آخر، فإن ادعاء شحرور أن الصلوة فرضت في المدينة غير صحيح، لأنها بحسب الوقائع التاريخية المؤكدة فرضت بأوقاتها في مكة ليلة الإسراء، وإنما كان تغيير القبلة في المدينة.
أما في موضوع الزنا وتعريف الزانية والزاني، فقد ذهب الدكتور شحرور مذهبا يسهل الأمر على الزناة ومرتكبي الفاحشة ويحول المجتمع الإسلامي إلى مجتمع لاتيني، حتى ليكاد الجميع ينعمون بالمتعة الجنسية دون أي خوف من سلطة دينية أو دنيوية، إلا أولئك الذين يريدون تحدي المجتمع بممارسة الجنس علنا، مثلا في ساحة المرجة بدمشق أو في ساحة التحرير ببغداد، فهؤلاء فقط عليهم أن يخافوا العقوبة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى