صدام الحضارات
بقلم: خالص جلبي
لعل المؤرخ الإغريقي القديم (هيرودوت) يعتبر الأول الذي كشف عن قانون خفي يسري في التاريخ في علاقات الحضارات بعضها ببعض، يأخذ طابع الاصطدام، ورد الفعل الذي يمشي وفق خط خيطي متسلسل تاريخي، من تتابع الفعل ورد الفعل بدون توقف، والعجيب في الحوادث الإنسانية هنا، أن كل فعل حضاري يستثير رد فعل ليس على طريقة القانون الثالث في ميكانيكا نيوتن، الذي ينص على أن كل فعل يولد رد فعل يساويه في القوة ويخالفه في الاتجاه! الذي يحدث أن رد الفعل هنا يكون أقسى دوما، فلا يصل التاريخ إلى توازن وقرار بهذه الطريقة. ولذلك فإن ما حدث في البوسنة أو لاحقا في مناطق شتى في العالم هو نتيجة عن مسلسل سابق قديم؛ سنحاول الإمساك بطرف خيطه لفهم حركته وإلى أين يتجه؟ كما أنه سيكون بدوره سببا جديدا لتطورات لاحقة؛ فالمسلسل لم ينته بعد.
يذكر المؤرخ البريطاني في دراسته الشائقة عن مأساة اللقاء والتصادم الحضاري في كتابه «مختصر دراسة التاريخ» مجموعة من الظواهر التاريخية الجديرة بالتأمل، فالصراع بين الشرق والغرب بدأت حفلته ورفعت ستارة المسرح التاريخية عنه، عندما بدأ الإمبراطور الفارسي (كزركسيس ـ XERXES) حملته لعبور الدردنيل (كان اسمه يومها هليسبونت)، في محاولة لاجتياح الحضارة الهيلينية عام 480 قبل الميلاد، بعدما انفتحت شهيته للعظمة الإمبراطورية بعد سرعة اجتياح ممالك آسيا الصغرى فهو (ملك الملوك)، ولكن جواب اليونان كان في خطة فيليب وابنه الإسكندر من بعدها لغزو الإمبراطورية الأخمينية في عقر دارها؛ ففي 1 أكتوبر من عام 331 قبل الميلاد حطم الإسكندر جيش داريوس المليوني بجيش يبلغ 47 ألف جندي متمرس في معركة أربيلا (جواجاميلا)، فكان جيش مثل المطرقة التي تصدم جرة الفخار الكبيرة الهشة فتحولها إلى نثارات، وانتظر التاريخ قرابة عشرة قرون حتى (وفق العرب المسلمون في نقض ما أنجزه الإسكندر بعد انقضاء ألف سنة من عبوره الدردنيل، بفضل سلسلة حملات خاطفة كالبرق، فحرروا الأراضي التي كانت جزءا من العالم السوري وقتا ما)، ولكن العرب تحولوا إلى الهجوم المضاد فساروا لحصار القسطنطينية في حملة 673 م و767 م و717 م، وعبروا البرانس لغزو فرنسا عام 732 م، واقتحموا الحدود البحرية وتقدموا لغزو كريت وصقلية وإقامة رؤوس جسور على ساحل المتوسط، بدءا من نهر الرون حتى نهر جارليانو في جنوب إيطاليا. وبفعلهم هذا استثاروا رد الفعل الغربي الذي تمثل بأطول حرب في تاريخ الجنس البشري امتدت 171 عاما في 7 حملات عسكرية (1099 ـ 1270م)، شنتها عصابات صليبية مفلسة يقودها رجال أميون من طراز ريتشارد قلب الأسد. إلا أن أوروبا لم تنج من العقاب التاريخي؛ فأتراك آسيا الوسطى اعتنقوا الإسلام وزحفوا باتجاه قلب أوروبا بعد أن أزاحوا من طريقهم كل بقايا الإمبراطورية الرومانية وعظمتها بسقوط القسطنطينية، ثم التوجه للضغط بكل ثقل على رقبة أوروبا لخنقها في ثلاث حملات عسكرية رهيبة، بلغت ذروتها في الحملة العسكرية عام 1683 م في حصار فيينا الثالث.
يقول توينبي: «وحقا كان طي العالم المسيحي بين طرفي الهلال العثماني قد بلغ من التوفيق حدا دفع الغربيين إلى تعويض خسائرهم في البحر المتوسط، الذي أقفل في وجوههم بتسخير طاقاتهم مرة أخرى في الإقلاع لغزو المحيط، الأمر الذي جعل منهم بعد ذلك سادة العالم. وإن استجابة الغرب الناجحة هذه ـ لكن نجاحا غير ثابت ـ لتبدو لمراقب يقف عند منتصف القرن العشرين، وهي تحمل بين طياتها رد فعل مضاد أو ربما جملة من ردود الفعل المضادة».
ولكن هذا الضغط كان في حقيقته نعمة كبرى على الأوروبيين الفقراء الأميين، فبعد أن بقوا لمدة تزيد على الألف سنة وهم أكثر شعوب العالم فقرا وتخلفا يطاردون الساحرات والقطط، ويشترون تذاكر للجنة، ويعالجون السعال الديكي بلبن الحمير، ولا يعرفون استعمال الصحون ودورات المياه والحمامات، ويحرقون كتب العلم في الساحات العامة. تحولوا بعد اكتشاف بحر (الظلمات) إلى عالم الأنوار وأصبحوا سادة الممرات البحرية العالمية، وامتلكوا أربع قارات وآلاف الجزر الغنية، وملؤوا كنوزهم من ذهب الأزتيك وفضة البيرو، مما ضاعف دخلهم أكثر من مائة مرة خلال قرن واحد، وانقلبت سيرة ريتشارد قلب الأسد فانتشرت لغته في كل الأرض ومُنِح بيتا فوق سطح القمر وانقلب ميزان التاريخ مرة أخرى؛ فطرد المسلمون من الأندلس وحاولوا مثلها في البوسنة. وقام الغرب مثل الديناصور وامتلك مفاتيح القرار التاريخي وما زال، فقرار دايتون (في البوسنة) تم بصناعة أمريكية وسكوت أوروبي وقبول بلقاني وغياب إسلامي. وتلك الأيام نداولها بين الناس.
صحيح أننا نعيش عصر الظلمات والشتات ودول الطوائف في تاريخنا الحديث، حيث لا يبقى حجر على حجر في أفغانستان، وتتحول الصومال إلى مجموعات لانهائية من العصابات المتقاتلة على لا شيء يقاتل عليه، في بلد خسر كل بنية تحتية، في حين تنز الخراجات المزمنة في بلاد أخرى من العنف والعنف المضاد. ولكن هذا ليس كل الصورة التاريخية، إذا تم تأملها في ضوء صراع الحضارات.
إن الرئيس (علي عزت بيغوفيتش) واقعي ويعرف حقيقة العالم الإسلامي، ولذلك فقد أجاب عن دور العالم الإسلامي في إعمار البوسنة: «لست سعيدا بأوضاع العالم الإسلامي، وأتمنى على دوله أن تساعد نفسها وأن تحسن من أوضاعها أولا». ليختم حديثه بالقول إن «التحدي الأكبر في المرحلة القادمة هو النهوض بالتربية والتعليم».