صداقة المغرب والسنغال بعيني أول سفير مغربي بدكار
وصول ديوماي فاي للقصر الرئاسي يشغل العالم
«كل صحف العالم أفردت صفحاتها لخبر وصول رئيس من مواليد سنة 1980 إلى القصر الرئاسي في دكار.
هذا الشاب، باسيرو ديوماي فاي، بنظراته الواثقة، لا بد أن يبصم على مسار استثنائي يعكس اهتمامات الشباب في السنغال، في قارة لا تزال تعاني من الأطماع الاستعمارية رغم مرور أكثر من ستين سنة على استقلال معظم دولها عن التبعية لأوروبا، وفرنسا على وجه الخصوص.
يونس جنوحي
الشهرة التي يحظى بها الرئيس الجديد تُعزى إلى أنه مر بتجربة سجن إثر أنشطته النقابية ومعارضته للحكومة، وهو ما جعل الاهتمام الدولي به يزداد.
وسط ترقب لما ينتظر الرئيس الجديد من تحديات، تبرز انتظارات أخرى بشأن صداقات السنغال وعلاقاتها التاريخية مع دول يوجد المغرب على رأسها.
في هذا الملف، نعود إلى «ومضات» تاريخية من مذكرات أول سفير مغربي عُين في السنغال في يناير 1961، ونستعيد معه مغامرته الدبلوماسية لإطلاق العلاقات الرسمية مع دكار، ولم تمض وقتها على استقلال البلاد سوى بضعة أشهر».
++++++++++++++++++++++
هل يُحافظ الرئيس الشاب على إرث قرون من الصداقة المغربية السنغالية؟
بوصول «باسيرو ديوماي فاي» إلى السلطة وحسمه السباق الرئاسي لصالحه، تكون السنغال على موعد مع حدث لم يسبق أن عاشت البلاد مثيلا له. نقصد هنا وصول رئيس شاب، بالكاد تجاوز عمره الأربعين، وسبق له أن عاش تجربة السجن بسبب أنشطته النقابية ومواقفه المعارضة، إلى القصر الرئاسي في دكار.
كل صحف العالم أفردت قراءات لمستقبل السنغال مع رئيس شاب لا بد وأنه يحمل تصورا مختلفا عن سابقيه لطرق تدبير الحياة العامة للسنغاليين.
وبحسب قراءات محللين ومتخصصين في العلاقات الدولية – بينهم مغاربة- فإن الرئيس الجديد للبلاد لا يمكن إلا أن يُعزز مكانة بلاده بين الدول الإفريقية الصديقة، ولا بد له أن يحافظ على العلاقات الوطيدة والتاريخية التي تجمع بلاده مع الدول المجاورة.
وسط كل هذه التأويلات والقراءات والاستشرافات، تبقى القصة المغربية- السنغالية درسا من دروس التاريخ التي تستحق فعلا أن يُسلط عليها الضوء.
في سنة 1961، مباشرة بعد بداية اشتغال السفارة المغربية في دكار، طلب رئيس الحكومة، وقتها، السيد مامادو داجا، من السفير المغربي الذي نخصص هذا الملف لقراءة في أقوى فقرات مذكراته التي خطها بيده قيد حياته، أن يفاتح الملك الراحل الحسن الثاني، وكان الملك وقتها جلس على العرش منذ أشهر فقط، في مسألة مشروع إنشاء مسجد في دكار.
لنترك الكلمة هنا للسفير والكاتب قاسم الزهيري، الذي توفي سنة 2004 مسدلا الستار على حياة دبلوماسية حافلة بدأها مع الملك الراحل محمد الخامس. يقول: «فاتحنا السيد مامادو دجا رئيس الحكومة السنغالية إذ ذاك في وضع تصميم هذا المسجد وبنائه على أيدي مهندسين وعمال مغاربة، وتشييد منار مرتفع يرى من بعيد وبناء مركز ثقافي ومدرسة لتعليم مبادئ الدين واللغة العربية. وسبق أن أسست لجنة القيام بهذا المشروع تتألف كلها من المواطنين السنغاليين وجمعت تبرعات كافية للإنفاق وقد تفضل جلالة الملك فلبى طلب الحكومة السنغالية وأوفد السيد المكي بادو رحمه الله، وكان إذ ذاك قائما بشؤون الأوقاف بالمغرب ومعه وفد من المهندسين وكبار النحاتين والعمال برئاسة المقاول السيد ابن عمر من سلا. وأسهم جلالة الملك بقدر مهم من ماله الخاص لإنجاز المشروع وقد تم وفق المرام بعد سنتين، وأصر جلالة الحسن الثاني بنفسه في تدشين المسجد في يوم مشهود ما تزال ذكراه عالقة بأذهان السنغاليين إلى يومنا هذا».
هذه لقطة، فقط، من لقطات كثيرة حفظها التاريخ وسجل بها مسارا طويلا من تاريخ علاقات المغرب بالسنغال، والتي يلتقي فيها التاريخ مع السياسة والاقتصاد والقصص الإنسانية لمغاربة اختاروا العيش في السنغال منذ قرون، وآخرين كانوا حاضرين في قلب الأحداث التاريخية التي توثق للعلاقات بين الرباط ودكار.
عُلماء السنغال تفوقوا على سياسييهم في ربط علاقات مع المغرب
في السنغال، كُلما ذكر اسم رئيسها السابق «ليوبولد سنغور»، أول رئيس للبلاد بعد استقلالها رسميا في الرابع من أبريل 1960، إلا وعاد الحنين بالسنغاليين إلى أيام «مجيدة» استمرت لعشرين عاما إلى آخر يوم من أيام سنة 1980، إذ إنه استقال من منصبه في يوم 31 دجنبر.
ومباشرة بعد سنغور جاء عبده ضيوف، الذي حكم البلاد من فاتح يناير 1981، إلى فاتح أبريل من سنة 2000، وهو ثاني رئيس للبلاد منذ استقلالها، وعمّر هو الآخر لعشرين سنة أخرى.
عندما جاء قاسم الزهيري، أول سفير مغربي إلى دكار، وكان هذا في أواخر يناير 1961، كان يحمل معه رسالة من الملك الراحل محمد الخامس إلى الرئيس السنغالي، وكان المغرب وقتها سباقا إلى تهنئة السنغال إثر استقلالها. ومباشرة بعد وصول الملك الراحل الحسن الثاني إلى السلطة، في فبراير 1961 خلفا لوالده، كان لقاء رؤساء عدد من الدول الإفريقية، أول ما بادر إليه الملك الراحل لتقوية العلاقات مع الدول الإفريقية، خصوصا السنغال، بحكم الاشتراك في عدد من الظروف والاهتمامات السياسية.
لنعد الآن إلى ما كتبه السفير المغربي، قاسم الزهيري، وهو يتحدث عن خصوصيات بلاد السنغال، وأهمية ارتباط مواطنيها بالزوايا والتصوف، حتى أنه أرجع الفضل في بقاء أول رئيس للبلاد بعد استقلالها على رأس السلطة لمدة عشرين سنة، إلى إدراكه أهمية الحفاظ على علاقة طيبة مع رؤساء الزوايا. يقول قاسم الزهيري:
«ينتمي السنغاليون عامة إلى إحدى الطريقتين: التجانية أو القادرية، وكلتاهما قامتا بدور أساسي في نشر الإسلام، ولا زال شيوخهما يقومون بواجبهم في ترسيخ قدم الإسلام لا بهذا البلد فحسب، بل في عموم إفريقيا الغربية والوسطى وقد اتجه نظرنا من البداية إلى ربط الاتصال مع شيوخ هذه الطريقة والتعاون معهم لما لهم من نفوذ روحي واسع على عامة الشعب.
والطريقتان تتنافسان في نشر الإسلام، وتتعايشان تعايشا حسنا. والطريقة القادرية (المريدية) بالأخص تضيف إلى نفوذها المعنوي، أهدافا اقتصادية اجتماعية حيث يسهر أتباعها على تنمية الإنتاج الفلاحي. لهذا فإن الحكومة الحالية، اقتداء بالحكام في عهد السيطرة الأجنبية، يستندون إلى الطريقتين ويرضونهما بجميع الوسائل، وإذا كان الرئيس ليوبولد سيدار سينغور قد توفق في البقاء على رأس الدولة السنغالية عشرين سنة، فلأنه عرف كيف يتعامل مع شيوخ الطريقتين.
من بين هؤلاء الشيوخ المرحوم نورو طال وكان شيخا وقورا ذا صيت واسع ونفوذ، وهو من حفدة الزعيم الوطني دان فوديو كان بيته من أكرم البيوتات في دكار، وله تأثير كبير على التجانيين بالسنغال، وقد توثقت صلاتنا به، وكان له عطف خاص على المغرب ووفاء لعاهله الكريم جلالة الملك الحسن الثاني نصره الله وكانت لنا علاقات متينة كذلك بالشيخ المرحوم إبراهيم نياس والشيخ عبد العزيز التجاني وهما عالمان جليلان: أما الأول فكان لا يفتر عن التجول في إفريقيا الغربية وله أتباع كثيرون في نيجيريا وساحل العاج والكامرون الخ.. إذا قام بجولة لنشر الإسلام، اعتنق الدين الحنيف الآلاف دفعة واحدة، وقد حضرنا أحد مجالسه بمناسبة عيد من أعياد المولد وأعجبنا بأسلوبه في الإقناع. وكان هو أيضا من المحبين للمغرب، وقد نظمنا له زيارات ومقابلات مع جلالة الملك. وراح أبناؤه للتعلم في جامعة القرويين بفاس، أما الشيخ عبد العزيز التجاني فهو كذلك من العلماء الأجلاء، وكان مجلسه بمدينة «كولخ» ولا يزال مجلسا حافلا وكلا الشيخين أسسا كتاتيب قرآنية، ومدارس لتعليم اللغة العربية ومبادئ الدين في شتى أنحاء السنغال، ويعود لهما ولأمثالهما من المشايخ الفضل في الدعوة الإسلامية وبقاء اللغة العربية حية بهذه الربوع. وكذلك الشأن في مشايخ الطريقة القادرية، وقد أدركنا الشيخ الكبير مباكى الذي كان مقره بمدينة طوبى بجوار المسجد الجامع».
+++++++++++++++++++++++
المرض لم يمنع محمد الخامس من تعيين أول سفير في السنغال
يتعلق الأمر هنا بالصحافي والسفير والأديب قاسم الزهيري، إذ كان أول من وقع عليه الاختيار لتأسيس سفارة المغرب في السنغال، وكان تعيينه رسميا يوم 19 يناير 1961، أي حوالي ثلاثة أسابيع قبل وفاة الملك الراحل محمد الخامس.
في العام 1988، بعد أن تقاعد الزهيري من مهامه الدبلوماسية – لكنه لم يتقاعد من الكتابة- قرر أن يكتب مذكراته، وخصص بعض المقالات التي نشرها وقتها في دوريات عِلمية متخصصة، تناول فيها، بصفته شاهدا على العصر، العلاقات المغربية- السنغالية، بالإضافة إلى أنه كتب مذكراته التي تناول فيها مهامه الدبلوماسية في موريتانيا، حيث عينه الملك الراحل محمد الخامس سفيرا لديها مباشرة بعد إعلان تأسيسها.
هنا ننقل مقطعا مثيرا من المذكرات، يحكي فيه قاسم الزهيري عن لحظات لقائه مع الملك الراحل محمد الخامس في قاعة صغيرة بقلب القصر الملكي، بعد صلاة المغرب، وكان «السلطان» مُتعبا في أيامه الأخيرة ويعاني من المرض الذي استوجب وقتها إجراء عملية جراحية لم يستيقظ منها الملك الراحل.
وبحكم تكوينه الصحافي سابقا، كان قاسم الزهيري حريصا على نقل التفاصيل، حتى أن هذا المقطع الآتي كُتب بطريقة الربورتاج الصحفي، كما أن صاحبه اعتاد تدوين ملاحظات عن يومياته والأحداث المهمة التي عاشها وأسماء الأشخاص الحاضرين بدقة، وهو ما ساعده كثيرا على التوثيق لأولى لحظات تعيينه سفيرا للمغرب في السنغال، حيث كُلف بتسهيل حياة التجار المغاربة هناك، وبحث إطلاق العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بشكل رسمي. وهو ما تم فعلا، فقد كانت السنغال من أوائل الدول الإفريقية التي بادرت إلى تقديم العزاء في وفاة الملك الراحل محمد الخامس، وربط الاتصال مع الملك الشاب الحسن الثاني.
يحكي قاسم الزهيري عن لحظات تعيينه قائلا: «تم تعييني سفيرا في السنغال في بداية سنة 1961، وكنت من الجماعة التي وقع اختيار جلالة المرحوم محمد الخامس طيب الله ثراه عليها قبل وفاته ببضعة أسابيع لتمثيل المغرب في بعض الأقطار الإفريقية، ومن هذه الجماعة الشيخ المكي الناصري والسيد الداي ولد سيدي بابا، وقد أخذنا أوراق الاعتماد في يوم واحد: 25 رجب 1380 هـ الموافق 19 يناير 1961، وبعد بضعة أيام جاء دور الصديق الدكتور عبد السلام الحراقي الذي عينه جلالته في جمهورية مالي.
ولن أنسى يوم سلمنا العاهل المنعم أوراق الاعتماد، فقد سلمها لنا رحمه الله في ردهة صغيرة من القصر الملكي بالرباط بعد صلاة المغرب، دخلنا على جلالته فاستقبلنا واحدا واحدا، وكان أشعث تعلو رأسه فيصلية بدت من تحتها وفرة خاطها المشيب ولحية أهمل حلقها من بضعة أيام على عادته كلما حزبه أمر، وكان يرتدي جلبابا بسيطا يميل إلى الزرقة، وكان بادي التعب والإنهاك من الألم الممض الذي كان يلازمه في آخر حياته. ومع ذلك كان متجلدا. استقلبنا وتوجه إلينا بكلمات أبرز فيها مكانة إفريقيا في الحاضر وما تتطلع إليه في المستقبل ومكان المغرب منها، وبين لنا ما ينتظره من كل واحد في مواصلة الرسالة التي قامت بها بلادنا في هذه القارة على مر العصور: رسالة سلام وإخاء وتضامن إسلامي، وشرح صدر منا بكلمات في منتهى الرقة واللطف. ثم أدينا اليمين بين يدي جلالته وانصرفنا بعدما وشحنا بوسام العرش، ولم أكن أتصور أننا كنا في لقاء وداع جلالته تغمده الله بواسع رحمته».
التُجار المغاربة في السنغال.. أحفاد الرحالة الذين اقتحموا دكار
بالنسبة للمواطنين في السنغال، فإن التجار المغاربة جزء لا يتجزأ من المشهد العام في البلاد. فحتى قبل أن تحل على البلاد تلك السنوات الاستعمارية العجاف، كان التجار المغاربة، عبر التاريخ، صلة الوصل بين السنغاليين وشمال إفريقيا، وعن طريق فاس ومراكش، كانت تصل إليهم معظم السلع الأوروبية، منذ بداية عهد العلويين. وهناك وثائق تاريخية تُثبت أن التجار المغاربة مارسوا أنشطة تجارية في السنغال منذ عهد السعديين، وهناك مؤرخون مغاربة يتحدثون عن بدايات تعود إلى ما قبل هذه الفترة أيضا، وبالضبط إلى أيام المرابطين، أي قبل أكثر من ألف سنة.
ورغم منافسة جنسيات أخرى على سوق السنغال، إلا أن المغاربة احتلوا مكانة مهمة في الحياة العامة للسنغاليين. وهذا ما اكتشفه قاسم الزهيري بنفسه سنة 1961، فقد خصص الأسابيع الأولى لافتتاحه سفارة المغرب في دكار، لاكتشاف المدينة والتعرف على التجار المغاربة الذين كانوا يستقرون فيها، وكتب عن هذه المرحلة قائلا:
«وقد أدركنا الكثير من هؤلاء المواطنين في السنغال وغامبيا، وكانوا منتشرين في أهم المدن ويتعاطون بالخصوص تجارة القماش والحذاء المغربي (البلغة) والطربوش والمصنوعات التقليدية. وكان يبلغ عددهم أزيد من مائتين وخمسين عائلة، كل عائلة يزيد أعضاؤها عن خمسة أفراد ومنها من تبلغ العشرين، وإذا كانت قلة من هؤلاء المهاجرين تصحبهم أزواجهم من المغرب، فإن الأغلبية اتخذوا زوجات إفريقيات وأنجبوا منهن. ومنهم من كان لهم مثنى وأكثر. وأبناؤهم لا يختلفون عن السنغاليين في شيء: لون وأسلوب حياة، ولغة، وكان التفاهم تاما بين المغاربة المهاجرين وأبناء البلاد. يثقون في بعضهم بعض، وتتوثق صلات المودة والمحبة بينهم أكثر من غيره.
كان بدكار عشرات التجار المغاربة، كانت لهم متاجر حافلة بالبضائع من جميع الأنواع على حافتي الزقاق المسمى بزقاق «فانسان» في وسط المدينة والذي سمي في ما بعد بزنقة محمد الخامس، وكان يقصدهم أهل البلاد لشراء ما يحتاجون من ثياب وأثاث وغيرها وكان أبرز هؤلاء التجار ممن عرفناهم السيد محمد الداودي والسيد محمد الشاوي والسيد بنسالم السقاط والسيد عبد الكريم الجابري والسيد إبراهيم بوغالب. ومنهم من كانوا يشتركون في متجر واحد. ورجل الصناعة المغربي الوحيد الذي كان إذ ذاك في دكار هو السيد محمد مكوار. وكان له معمل كبير لصنع الأقمشة التي كان يصدرها إلى موريتانيا وجميع أقطار إفريقيا الغربية، وكان معروفا في الأوساط الرسمية، وله صداقات وطيدة، كما كانت له تجارة واسعة في الدار البيضاء، وهذا ما أهله لأن يصبح سفيرا في دكار سنة 1981.
طالما اجتمعنا بهذه الجالية ودعوناهم لتكييف حالتهم بحسب الأوضاع السياسية والاقتصادية الجديدة حفاظا على بقائهم وتجارتهم، فالسنغاليون، بعد الاستقلال، أخذوا يتعاطون التجارة ويبحثون لاستغلال المرافق الاقتصادية، ثم إن الدولة الناشئة أصبحت في حاجة إلى المداخيل، فلجأت إلى سن الضرائب، وكان على مواطنينا أن يتنبهوا إلى تبدل الأحوال فيشركوا معهم أبناء البلاد في رأس المال والربح.
وبذلك يبقون على وجودهم وتجارتهم. والوحيد الذي تنبه إلى ذلك هو السيد محمد مكوار، أما الآخرون فأغلبهم لم يتطوروا فاضطروا إما إلى العودة إلى بلادهم أو إلى الرحيل إلى ساحل العاج حيث فرص العمل الحر أكثر والبلاد أغنى».
أسر مغربية استقرت بدكار منذ أكثر من 150 سنة
بعض العائلات المغربية استثمرت العلاقات المغربية- السنغالية التي تعود إلى أكثر من ألف عام، أي منذ مجيء الإسلام إلى بلاد المغرب.
كان للمغاربة طموح كبير في إيصال الإسلام إلى تخوم البلاد الإفريقية، وكرس الملك الراحل الحسن الثاني هذه القاعدة التاريخية عندما أمر ببناء مسجد في دكار، على الطراز المغربي، وخصص له دعما مهما من ماله الخاص، سنة 1964، وأرسل الحرفيين والصناع المغاربة التقليديين لبناء المسجد على الطراز المغربي. واليوم يعتبره السنغاليون رمزا لامتداد العلاقات التاريخية المغربية- السنغالية.
عندما افتُتحت أول سفارة للمغرب في دكار، كما رأينا في شهادة السفير قاسم الزهيري، كان جيل كامل من المغاربة يقيمون في دكار، ويمثلون آخر ملامح التاريخ المغربي- السنغالي المشترك. وإذا كان بعض هؤلاء التجار نجحوا في تجارتهم، فقد كان آخرون غير محظوظين، خصوصا منهم الذين كانوا يمثلون الجيل الثالث، أي أن أجدادهم جاؤوا إلى السنغال قبل فترة الحماية، وفروا بتجارتهم من فاس ومراكش في أجواء «السيبة» قبل 1912، واستقروا في السنغال. وبحكم أن الزمن يدور دورته، فقد كان من سوء حظ أحفادهم، في بداية ستينيات القرن الماضي، أن جربوا مرارة العيش بعد تدهور التجارة التي ورثوها عن أجدادهم.
وتطرق السفير قاسم الزهيري إلى معاناة هؤلاء الناس، خصوصا وأنه التقى بهم وتعرف على معاناتهم عن قرب، وكتب تقريرا مفصلا عن الصعوبات التي يعيشونها، ورفعه إلى الملك الراحل الحسن الثاني في الأشهر الأولى لجلوسه على العرش، وتدخل لتسهيل عودة بعضهم إلى المغرب، في ما بقي آخرون في السنغال ولم يغادروها، خصوصا منهم الجيل الذي وُلد هناك.
يقول قاسم الزهيري عن هذه التجربة: «وبقي بعض المغاربة العجزة الذين تأهلوا من السن السنغال وأنجبوا أبناء يعتبرون سنغاليين، ومنهم من أقعدهم الدهر، فكانوا يتلقون الإسعاف من مواطنيهم أو من الدولة المغربية، وأكثر هؤلاء كانوا في «مباي لوي» أو «كولخ» الخ.. ومنهم من أدركتهم المنون فتركوا أسرة على بساط الفقر. وممن أدركنا بالخصوص وعلى سبيل المثال: المرحوم السيد إدريس كنون. قضى أزيد من أربعين سنة، في السنغال، وكانت له تجارة واسعة ودار مفتوحة في دكار، وكان يعرف بـ«بابا إدريس» مات عن سن تناهز المائة وترك أسرة تتألف من أرملة وإحدى عشر ولدا. ومنهم الشيخ الحسن بن جلون، كان من التجار المشهورين في مدينة كولخ قبل أن يقعد به الدهر ويذهب بصره. وكانت عائلته متألفة من زوجة وثمانية بنين وستة حفدة. وسنه تناهز الثمانين. وقد آواه أحد السنغاليين ونقله إلى مدينة «روفيسك»، ومن بين التجار المغاربة القدامى السيد عبد العزيز بوغربال له ثمانية أولاد وكان يسكن بمدينة «روسو». والسيد عبد الله بن جلون وقد أصيب بعاهة ألزمته البيت وله عيال كثير، والسيد عبد الكريم بوزكري وكان من التجار المعروفين، وقد اتخذ مدينة «دجوربيل» مسكنا له ولبناته الخمس. والسيد إدريس بن جلون وكان من التجار المعروفين في مدينة كولخ. وله أسرة تتألف من عشرة أبناء وأخت تحت كفالته، والسيدة خادي أرملة المرحوم السيد الحاج محمد بنونة وكان من كبار التجار المغاربة في دكار خلف خمسة أطفال صغار.
والسيد عبد العزيز بوغالب كانت له تجارة واسعة في «تيبس» وأسرته مؤلفة من اثني عشر ولدا علاوة على زوجته، والسيد عبد القادر الشاوي، وكان معروفا بكرمه لما كانت تجارته مزدهرة، وأسرته تتألف من أربعة عشر ولدا وزوجتين. والسيد إدريس بوغالب له ولد وبنت، والسيد الكبير العلمي وله زوجة من أسرة بوعياد وقد هجرها وترك لها أربعة أولاد، والسيد عثمان بوغالب وهو من وجهاء المغاربة في «سان لوي» وله سبعة أنجال.
هؤلاء ممن عرفنا، منهم من لم تجمعنا بهم المقادير وهم الأكثرية، وكان المواطنون في السنغال – جازاهم الله خيرا – يسعفونهم بما يستطيعون، وقدمت لهم السفارة بعض الإسعاف كما طلبت من الدولة أن تعينهم».
عندما هتف السنغاليون بحياة سلاطين المغرب
هناك معطيات تاريخية لم يُسلط عليها الضوء الكافي رغم أنها تبقى غاية في الأهمية، وتتعلق بوصول الإسلام إلى بلاد السنغال. إذ إن الجيش المغربي كان له فضل كبير في الفتوحات التي عرفتها الدول الإفريقية، والتي تحاول بعض الأطراف – في إطار الصراع السياسي- نسبها إلى نفسها في تزوير واضح للتاريخ.
أولى العلاقات المغربية- السنغالية تعود إلى عهد المرابطين، أي قبل ألف سنة.
حتى أن الدول التي تعاقبت على حكم المغرب، كانت تستمد قوتها و«سُمعتها» العسكرية من حملات التوسع في القارة الإفريقية. وحرصت جل الدول، التي تعاقبت على حكم المغرب، على تأسيس علاقة صداقة مع قبائل بلاد السنغال.
حتى أنه في عهد السعديين، استطاع المنصور الذهبي أن يحظى بتقدير خاص من بعض الدول الأوروبية، خصوصا من طرف إيطاليا وألمانيا وفرنسا، بعد أن وصلتها أخبار تفيد بوصول الجيش المغربي إلى تخوم إفريقيا متجاوزا السنغال. حتى أن بعض مستشاري الملكة إليزابيث الأولى، التي توفيت سنة 1603، أوعزوا إليها بضرورة التحالف مع السلطان المغربي للاستفادة من لياقة الجنود المغربية ونقل تجربتهم في إفريقيا، واستغلالها في التوسع الذي كانت تباشره الهند في تخوم آسيا، خصوصا في بلاد الهند.
أما في عهد العلويين، ومع وصول المولى إسماعيل إلى السلطة، عرفت العلاقات المغربية مع دول السنغال وساحل العاج دفئا كبيرا تمثل في بعث رسائل إلى جنوب الصحراء وتبادل الوفود وحُسن النوايا، خصوصا وأن بعض الزوايا وقتها بدأت تنتشر في السنغال، وتجمع حولها آلاف المريدين الذين حفظوا وُد المغرب.
وبفضل هذه الزوايا، عمت في السنغال مناصرة قوية للدولة المغربية، وحظي السلاطين العلويون بشعبية كبيرة بين السنغاليين، حتى أنهم كانوا في مناسبات كثيرة يهتفون بحياتهم، ولم تنقطع مسيرة القوافل -العلمية والتجارية- من دكار إلى فاس. وحتى عندما افتتح مسجد الحسن الثاني في دكار منتصف الستينيات، كان الهتاف، أثناء تدشين المسجد، مجرد استمرار للعلاقات التاريخية التي تجمع بين السياسة والتدين المغربي.
ننقل هنا مقتطفا من مقال علمي، نشرته مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، وشرح بالتفصيل أسماء الزوايا والطرق الصوفية المعتدلة التي انتشرت في السنغال وأوصلت الإسلام إلى معظم نواحي إفريقيا جنوب الصحراء.
ومن أبرز ما جاء في هذه الورقة البحثية، نورد ما يلي:
«وبالنسبة للسنغال، فإنّ الإسلام وصل إليها حوالي القرن الثالث الهجري، وازداد انتشاره بعد الفتوحات الإسلامية في عهد عقبة بن نافع الفهري، ثمّ توغّل إلى المناطق المجاورة أيّام الأدارسة. ثمّ تقوّى وانتشر في عهد المرابطين بقيادة عبد الله بن ياسين (تـ 403هـ /1013م).
وقد تولّد من حركة هذا المجاهد ما يسمى بـ (الرباط) في منطقة شمال وغرب إفريقيا، يعني من صحراء المغرب الجنوبية إلى ضفة نهر السنغال (منطقة فوتا تورو).
هذا ومن ضمن الفاتحين ثلة من الفقهاء السنيين يُفقّهون الناس في المذهب المالكي الذي يعتمد على العقيدة الأشعرية، وكان التصوف السني هو الآخر يعتمد عليهما معا – شريعة وحقيقة- ضمن النصوص.
في السنغال توجد الزاوية الكنتية القادرية بمدينة نجاسان، وعلى رأسها اليوم الخليفة العام لهذه الطائفة، سماحة الشيخ البكاي حفظه الله ورعاه. ولهذه الزاوية العظيمة فروع تابعة لها في طول البلاد وعرضها، لأنّ هذه الطريقة كانت من أقدم الطرق تاريخيا في الوصول إلى غرب إفريقيا. ولها عدة أتباع في سائر بلدان المنطقة الغربية كما سبقت الإشارة إليها.
ومن أعلامها الكبار الشيخ البكّاي الكبير الذي زامن الشيخ عمر الفوتي أيام مُقامه في حمد الله. وسنذكر لاحقا تاريخ تأسيس الزاوية الكنتية في السنغال عند ذكر الزوايا وأعلامها. ومما يبرهن على حضور الطريقة القادرية في السنغال منذ مدة من الزمن، أنّ رجال الثورة الإمامية في فوتا تورو (شمال السنغال) في القرن 17 الميلادي بقيادة الشيخ سليمان بال 1118 – 1182هـ / 1707 – 1762م والشيخ عبد القادر كن 1138 – 1236هـ /1726 – 1815م، الذي كان أوّل أمير للمؤمنين في هذه الدولة الإسلامية، التي أطلق عليها المؤرخون اسم: الدولة الإمامية في فوتا تورو شمال السنغال، كانوا قادريي الطريقة. ولا تزال هناك زوايا قادرية في فوتا حتى الآن، كمدينة بَكّل وبوكجوي».