شكوك في عالم الدراويش
عندما يغوص أهل الطريقة في عالم «الحضرة» ويتملكهم الحنين إلى شيخهم، يلهجون بـ «الله حي.. الله حي».. تتعالى الأصوات.. وتسمع لأنفاسهم شهيقا وزفيرا وغرغرة كمن حضرته المنية.. يقف الجميع وسط الخيمة.. تسمع الرجل الضخم يصيح بأعلى صوته: «أطفئوا النور.. أطفئوا النور».. فتنطفئ الأنوار، وتسقط العمائم من فوق الرؤوس، ويختلط الحابل بالنابل.. وتدوي صيحات «الفقراء» في سماء باديتنا، فيردد الوادي أصداءها على مسافات بعيدة.. في نهاية «الوقعة» تتهاوى الأجسام الضخمة على الأرض تباعا، ويبقى فقط الرجل الضخم واقفا يردد «الله حي.. الله حي».. يكاد قلبي ينفطر من شدة الخوف.. لقد كان بالفعل مشهدا عظيما يشد الانتباه ويحبس الأنفاس.. يغمى على جميع إلا الشيخ الضخم، فإنه يجلس إلى الأرض بإرادته، ولحيته تتقاطر عرقا، فتشتعل الأنوار مرة أخرى، وتنتهي جولة من جولات «الحضرة»..
لم أفهم في ذلك الوقت من الطفولة هذه «الجذبة».. بدا لي أن هؤلاء المشايخ يأتون إلينا من كواكب بعيدة وأنهم لا يشبهون البشر.. لم أدرك يومها معنى إطفاء النور وقت الحضرة.. المهم أن الأنفس تشعر بالارتخاء وبراحة كبيرة بعد كل جلسة «ذكر».. سمعت الرجل صاحب اللحية البيضاء يحكي للفقراء أنه رأى عوالم كثيرة أثناء الجذبة، وأنه التقى الشيخ الأكبر، وأن هذا الأخير راض عنهم، وأن أرواحا غير مرئية وخلائق كثيرة حضرت هذا المهرجان ـ لهذا السبب ربما يطفئون النور ـ الذي ننظمه ونسهر على إنجاحه كل سنة.. يكاد والدي يطير فرحا عندما يسمع الشيخ يحكي بطولات الصوفية وغزواتهم في عالم العرفان.. لا تسَعُه أرض ولا سماء.. فكيف لا يكون كذلك وهو الرجل البسيط «الفقير» الذي تزوره في بيته المتواضع جدا كل هذه «الأرواح» من الأحياء والأموات!!!
حسبت أن هذا كله من الدين.. وأنني لا بد في يوم من الأيام أن أسير على هدى الوالد حتى أدخل الجنة.. يعتقد المسكين أن «الحضرة الصوفية» من أمر الله، فيحذرنا من الزيغ عن صراط القوم في كل مرة نثير فيها النقاش حول هذا الموضوع.. الرجل ذو اللحية البيضاء لا يفارق مخيلتي.. كان أبي يقدمني إليه ويطلب منه أن يدعو لي بالنجاح والهداية.. مرة زارنا دون مناسبة، وحدث أن وجدني عليلا، فتفل في فمي، فشربت من لعابه، حتى شعرت بالغثيان، وكدت أن أتقيأ كل ما في بطني.. يعتقد الوالد أن له بركة تداوي من الأسقام..
عادة لا نذهب إلى الطبيب الموجود في قرية تبعد عنا حوالي عشرة كيلومترات.. إذا مرض أحدنا تلتجئ أمي إلى الفقيه «بوشتى» ليكتب لنا «حرزا» عبارة عن طلاسم لا يفهمها إلا هو.. وإن صادف أن كان عندنا أحد المتصوفة، فهو يقوم بمهمة الطبيب المداوي.. في بعض الحالات عندما يشتد بي المغص ولا تنفع فيه بركة الفقيه والصوفي، تأخذني الوالدة على عجل إلى شيخ طاعن في السن يعتمد على الكيِّ في علاج الصغار والكبار.. يأخذ ورقا أزرق يلف به قالب السكر، فيبرمه ويشعل فيه النار، حتى إذا خمدت عرَّى بطني وبدأ في كيِّ جميع أنحائه دون رحمة، وأنا أستغيث بأمي لكي تنقذني من عذاب هذا الشيخ القاسي، لكنها لا تعبأ بتوسلاتي.. وصادف مرة أني، ومن شدة الألم، وجهت إليه سبا فاحشا.. شتمت أمه وأباه، ونعته بأوصاف لا تليق.. فلم أكترث لوجود أمي.. ولا للحاضرين وقتها..
أما الشيخ البوعزاوي، فهو يستعمل «اللعاب» لتطبيب الناس من كل الأمراض حتى الباطنية منها.. يتفل في أفواه الصغار وعلى رأس الكبار.. ينشر «لعابه الشريف» أيضا على كل بقرة أصابها «السعار» الذي نسميه بمرض «الجْهَل».. العجيب أن هؤلاء المرضى يتداوون فقط بزخات اللعاب.. وهو ما لم أستطع أن أفهمه أبدا في تلك المرحلة.. على كل حال، كنت أرتاب من هذا النوع من العلاج..
عندما انتميت إلى «الحركة الإسلامية»، ودخلت غمارها، كنا نناقش مثل هذه المواضيع كثيرا، وكان ينكرها أغلبنا.. حكيت لـ«الإخوان» هذه الكرامات التي كانت تحدث في قبيلتنا، غير أن بعضهم كان يشك في صحتها.. كان أغلبهم يطعن في التصوف وأهله.. ينكرون كراماتهم ومعجزاتهم.. ينبغي التنبيه إلى أن هذا حصل في بداية العمل الإسلامي في المغرب، ولم يتم التراجع عن مثل هذه الأفكار إلا في السنوات الأخيرة..
تحدثت لهم عن باعي الطويل في معرفة أحوال التصوف.. وأن معايشتي لكل هذه الأحداث في الصغر جعلتني أصبح صوفيا ولو لم أرغب في ذلك..
قلت لهم إني خالفت الوالد أيضا في ميولاته العرفانية، فـ«كنت تيجانيا..»، ولم أرض أن أكون «بوعزاويا» مثله..
وعندما «كنت إسلاميا..»، وبالأخص في بداية انتمائي إلى «الجماعة»، انقلبت على المتصوفة، فوصفتهم بأقبح الأوصاف.. سفَّهت أحلامهم، واحتقرت أتباعهم وفقراءهم، واتهمتهم في دينهم، وأدرجتهم كلهم في خانة «المبتدعة».. كنت أردد مثل الببغاء «كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار»..
استعنت في مرحلة من المراحل برأي بعض «السلفيين» في أهل التصوف.. هؤلاء لم يتركوا مذمة ولا نقيصة ولا جريرة إلا وألصقوها بالصوفية وأتباعهم وأتباع أتباعهم.. أثروا بفكرهم «السلفي» في كثير من خلق الله.. لم يخرجوا عن أسلافهم المكفّرة، فأسروا الأمة في غياهب الجهل، وكادوا أن يقضوا على دين الله في الأرض، لولا وجود فئة قليلة لا تزال تؤمن بأن «القرآن» خير هاد للناس إلى صراط الله المستقيم..
لم يكن وحدهم «البوعزاويون» الذين يزوروننا كل عام.. كان هناك «دحمان الشريف» الذي يطل علينا ببهيته عند نهاية كل موسم حصاد.. بل كان يستضيفه أبي أكثر من مرة في العام.. نستقبله بمناسبة وغير مناسبة.. يحضر أيضا الموسم السنوي الصوفي للطائفة «البوعزاوية»..
النسب «الشريف» خوَّل «دحمان» مكانة كبيرة عند فقراء أهل الطريقة، فكانوا يعاملونه معاملة متميزة.. يقبلون يديه.. يتبركون بطلعته.. يتسابقون لخدمته والإحسان إليه.. يتغاضون تماما عن كل نقائصه وعيوبه ونزواته التي كانت في بعض الأحيان تخرج عن حدود السيطرة..
أذكر أن هذا «الشريف» لم يكن يوما بالعفيف، فقد كان يستنكف عن الذكر.. لا يلقي بالا لمواعظ الشيخ ذي اللحية البيضاء ولا لـ«كراماته» وبطولاته «العرفانية»، فيتسلل في جنح الظلام للجلوس قرب «الصخرة» التي نبتت قريبا من دارنا.. كنت ألعب حولها وأتسلقها كثيرا في سنوات الطفولة.. يُخرِج «الشريف» من جنبه «السبسي» (غليون رقيق وطويل يستعمل للتدخين) فيشرع في شرب «الكيف».. يقوم كل مرة بشحن «غليونه» بهذه المادة، ثم يشعلها بعود الثقاب، فيأخذ نفسا عميقا مصحوبا بالدخان إلى جوفه «المتعفن».. بجانبه أحد الأقرباء «يقص» له هذه النبتة القادمة من شمال البلاد بشفرة حادة جدا.. ثم يمزجها بأوراق «طابا» (تبغ) بعد أن يقوم بـ«تقطيعها» هي أيضا إلى جزيئات صغيرة..
يجد «الشريف» نشوة لا حدود لها وهو يدخن «الكيف» بالمجان.. شباب الدوار الذين أدمنوا على تناول هذا المخدر يتجمهرون حوله ويتغامزون في ما بينهم.. عندما لا تكفيه ذخيرته من «القنب الهندي» يلتمس بعضا منها عند من استحكمت عادة التدخين في نفوسهم..
أترك مجلس «الشيخ البوعزاوي» وكراماته الصوفية وأحضر جلسات «دحمان الشريف» يحكي عن «غزواته» الغرامية.. يذكر نكتا خليعة دون استحياء من أحد.. لم أره يشرب الخمر، لكني سمعت من شباب الدوار يحلفون بالله أن «شريفنا» يستحسن شرب الخمر «الأحمر»..
ينسى الشريف نفسه وسط الشباب، وهم في غالبيتهم من أقربائنا، حتى يُلِحَّ «الفقراء» الموجودين في الخيمة المجاورة في طلبه، فيرجع إلى حلقة الذكر، وإلى الصلاة على النبي المصطفى، وقد «عدَّل» الكيف من مزاجه، وجعله أكثر نشاطا وحيوية.. يندمج مرة أخرى في الحضرة الصوفية ويسافر في عوالم الباطن والروح.. لاحظت، وأنا ما زلت يافعا، أن كلا من نبتة الكيف والحضرة الصوفية تذهبان بالعقل وتسكران الوجدان عند «الشريف دحمان».. الحضرة «تصرع» المريدين وتسقطهم أرضا من شدة «الجذب»، وكذلك «الكيف» يفعل فعله في الدماغ ويجعله منتشيا إلى درجة «السكر».. لا عجب أن تغنى الصوفية الكرام كثيرا بـ«السكر»، بطبيعة الحال «السكر الوجداني»..