بقلم: خالص جلبي
لماذا يفجر شعور الموت عندنا شحنة عالية من القلق والخوف؟
إن الذي يواجه أو يفكر بالموت يتحرك عنده مباشرة شعور قلق الموت، من خلال مزيجٍ من الرؤى والانفعالات لما سيحدث مع الموت أو بعده، من مصير مجهول، إذا كان ثمة مجهول غير التحلل الكامل والعودة إلى الطبيعة كما خلقنا أول مرة إنا كنا فاعلين، أو معاناة ممزوجة بالألم، أو شعور بالتلاشي والوحدة والذهاب إلى زاوية النسيان؛ فقلق الموت كما رآه الفيلسوف الرواقي إبكتيتوس مرده إلى أفكارنا تجاهه أكثر من حقيقته بالذات؛ وشعور الخوف من الموت أشد من الموت ذاته، بسبب حيرتنا لما سيحدث لنا معه.
يقول الفيلسوف: ليس الموت مفزعا وإلا بدا كذلك لسقراط، لكن الفزع يكمن في مفهومنا عن الموت. أي إن هذا المفهوم هو المفزع، فليس الموت أو الألم هو الشيء المخيف، وإنما خشية الألم أو الموت. فهذا هو لغز الموت الأكبر؛ فلم يرجع أحد فيخبرنا بما عانى وأين رسا مصيره؛ وكل واحد منا يذوق كأس الموت منفردا، منهارا باتجاه السلبية المطلقة، في رحلة أبدية لا عودة منها على الإطلاق إلى يوم القيامة، هذا لمن يعتقد ذلك، يخسر فيها حتى شكله الخارجي وقميص البدن، في عملية مروعة تحت التراب في القبر، يتحطم فيها بدون توقف، حتى يتسلمه التراب بالكامل عظاما ورفاتا؛ قد عاد إلى دورة الطبيعة متحللا إلى الذرات الأصلية الأولية؛ فأما الغازات فقد انطلقت إلى السماء تعانق السحب، وأما المعادن فاختلطت بتراب الأرض راجعةً من حيث خرجت. وهو ما عنته الآية حين قالت: قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ.
هذا القدر طوى البشر منذ أن دب الإنسان على الأرض؛ فكانت مصير على الأقل 106 مليارات من البشر حتى. ومن يموت كل ليلة فيدلف إلى المقابر 58526 إنسانا، مقابل صياح رضع مع كل صباح بمقدار 129343 طفلا، أي بزيادة 70817 إنسانا، أي بمعدل 2950 إنسانا في الساعة، أو 49 دقيقة، أو تقريبا زيادة طفل كل ثانية، أو زيادة الجنس البشري هذا العام بمقدار. والمتوقع زيادة عدد البشر مع نهاية العام إلى قريب من 70 مليونا، مع العلم أن التعداد الحالي للسكان هو 8٬077٬148٬251، أي أن البشر سوف يزدادون مجددا إلى تسعة مليارات من الأنام، في مدى عقد ويزيد من الأعوام.
إن حالة الحزن هي التجمد في الماضي، والخوف هو التجمد في الحاضر نفسيا مما هو قادم أليس كذلك؟ وكلاهما حالة غير سوية في السياق الكوني، كما في التصلب الشرياني؛ فإذا كانت تصلب الشرايين حالة مرضية، فهناك في عالم النفس ما يشبه ذلك من التصلب الروحي.
وإذا كان التصلب الشريان ذا آثار مأساوية على العضوية، من رفع الضغط وارتخاء القلب وانسداد الشرايين ونزف الدماغ، كذلك في حالة التصلب النفسي أو حالة التجمد في الزمن، من خلال استيلاء شعوري الخوف والحزن على النفس؛ فهي حالة لا تتوافق مع طبيعة الحياة التي تعتمد مبدأ الحركة والتغير الدائمين، فكما أن آليات تشكل مختلف الصور في الحياة هي صورة متدفقة بدون توقف، عبر أشكال لا حصر لها من النبات والحيوان والإنسان، بدءا من البكتيريا وانتهاء بأعقد تشكيلات الحياة الممثلة في الدماغ، كذلك فإن قانون التشكل والنمو يقابله قانون الانحلال والموت، في دورة متكاملة تعيد نفسها بدون توقف، يقنصها الموت وتدفعها الحياة بعنفوانها الهادر، المسيطرة على ساحة الوجود.
ما زلت أتذكر صديقي الحلبي أبو طه عندما زارني، كان يمشي بعزم ويتكلم بقوة. كان عالما كاملا قائما بذاته، ولم يخطر في بالي أنه خلال ساعات سينهار بشكل كامل فيستسلم إلى الأرض، وينطفئ حديثه العذب، وتتوقف إشاراته المفعمة بالقوة ويغيب عالم بكامله.
أين ذهب؟ أين هو الآن؟ أين اختفى عالمه بالكامل؟ فالموت هو تلك الظاهرة التي تسبح بين اليقين والصدمة؛ ففيها اليقين من النهاية الحدية التي تسلم الإنسان إلى عالم اللانهاية والأبدية واللاعودة، وفيها الصدمة من عدم إمكانية استيعاب صدمة انهيار عالم بالكامل بشكل مطلق ونهائي وفجائي إلى الصفر.
كنت أفكر كيف حصل أن أصبح تحت التراب، ولم يعد منامه فراشا وثيرا، بل كفنا وترابا. ليس طعامه هنيئا، وليست حياته حياة حافلة باللذات والراحة، بل انحدر فجأة إلى الوحدة والوحشة والغربة والبعد السحيق.
لن ينام بعد هذه الليلة في فراشه، لن يرى عائلته قط، لن يرجع إلى روتين حياته السابق. انطفأ الشعور، وغاب الإحساس، وودع كل شيء على الإطلاق، في رحلة لا رجعة منها.
يا إلهي ما هذا الموت الذي كتبته علينا، أي جبروت فيه وقهر (وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة، حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون). عندها أدركت أن صاحبي قد شبع موتا، وجثته تمشي في طريق التحلل والتفسخ، هنا سالت دموعي مجددا؛ فموعدي معه هو في الآخرة فقط.
بكيت في الواقع على نفسي؛ فعمره من عمري، وهو من جيلي، وعاصر نفس الأحداث التي عشتها. أما هو فقد انتهى حظه منها، وطُوِيَ ملفه من سجل الأحياء، وأما أنا فسألحقه ولو بعد حين.
نافذة:
قلق الموت كما رآه الفيلسوف الرواقي إبكتيتوس مرده إلى أفكارنا تجاهه أكثر من حقيقته بالذات وشعور الخوف من الموت أشد من الموت ذاته