شركات الأدوية المنقرضة في المغرب قبل 90 عاما
قصص من زمن بيع فرنسا الدواء للمغاربة
يونس جنوحي
المجلات التي كانت تصدر في المغرب ما بين ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وثقت لأنشطة شركات الأدوية الفرنسية في المغرب.
ورغم أن بلدنا كان رقما صعبا في معادلة تأسيس الطب، قبل قرون خلت، حتى أن أول شهادة في الطب في العالم، مُنحت في المغرب، قبل أزيد من خمسة قرون، إلا أن مجال صناعة الأدوية ظلت تحيط به قتامة كبيرة، سببها تحكم الشركات الفرنسية في سوق الأدوية مع ظهور حركة التمدن في المغرب.
في سنة 1944، كان المغرب ملاذا للشركات الفرنسية التي تكبدت خسائر فادحة بعد الحرب العالمية الثانية، لكن سعي السلطان محمد بن يوسف إلى تطويق هيمنة الفرنسيين على الاقتصاد، جعله يتعامل مع شركات الأدوية بالمنطق نفسه الذي تأسس بموجبه المكتب الشريف للفوسفاط، وهو منع القوى الخارجية من التحكم في موارد الدولة. لكن ما وقع أن إنشاء أول شركة مغربية لإنتاج الأدوية، تأخر كثيرا إلى ما بعد استقلال المغرب.
++++++++++++++++++++++++++++++++
«لعنة» الاستعمار وسوق الأدوية في المغرب
عدد من الحقوقيين الفرنسيين، والسياسيين الاشتراكيين على الخصوص، ينددون بسياسة فرنسا عندما يتعلق الأمر بصفقات الأدوية في القارة الإفريقية.
اتهامات كثيرة ساقتها تقارير دولية في حق شركات فرنسية، بعضها تُعتبر شركات وطنية، تتهمها بالجشع واستغلال هشاشة بعض الدول الإفريقية لترويج الأدوية، خصوصا عندما يتعلق الأمر بعلاج أمراض السل وفقدان المناعة المكتسبة «الإيدز».
عندما يتعلق الأمر بشركات الأدوية الفرنسية في المغرب، فإن الأمر مختلف تماما.
البداية كانت مع شركات فرنسية روجت أدويتها في المغرب، منذ نهاية عشرينيات القرن الماضي. هذه الشركات كانت تلبي حاجة الرعايا الفرنسيين الذين استقروا في المغرب، وسرعان ما توسع نشاطها ليشمل تزويد الصيدليات المملوكة للفرنسيين، وتوفير الأدوية للثكنات العسكرية والمنشآت الإدارية الفرنسية في المغرب، سيما في أربعينيات القرن الماضي التي تحول فيها السوق المغربي إلى بديل لأصحاب تلك الشركات عن الخسارة التي لحقتهم في أوروبا، بسبب تداعيات الحرب العالمية الثانية.
ظل حضور هذه الشركات الفرنسية مقتصرا على بيع الأدوية المصنعة في فرنسا، في غياب تام لأي تجارب تصنيع داخل المغرب.
بعض الصيدليات، خصوصا في الدار البيضاء والرباط، كانت تلجأ إلى تصنيع عقاقير أدوية لم تكن تتطلب موارد كبيرة أو آليات معقدة لتصبح جاهزة. وكانت تلك أولى محاولات تصنيع الأدوية في المغرب، قبل أن يتطور الأمر في نهاية الخمسينيات، عندما أنشأت أولى شركات الدواء في المغرب المستقل.
إذ كانت الأدوية الأولى التي يتم تصنيعها في المغرب لا تتعدى أدوية بسيطة على شكل عقاقير ومستحضرات للشرب، وليست حبوبا، إذ إن تصنيع هذه الأخيرة يتطلب توفر آلات خاصة.
ومع اتساع دائرة الاستثمار في مجال الأدوية تأسست الشركات المغربية الأولى، التي تطورت أكثر في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
لكن حضور الشركات الفرنسية في المغرب بقي قويا، وظلت بعض الشركات الفرنسية تحتكر بعض الصناعات الدوائية وتوردها إلى المغرب.
في سنة 1961 تأسست «الهيئة العامة للصناعات الدوائية»، وكان الهدف من إنشائها تنظيم الصناعات الدوائية وتوسيع نطاق عمل الشركات المنتجة للأدوية على الصعيد الوطني.
ورغم أن المنافسة مع الشركات الدوائية الفرنسية كان على أشده، إلا أن السوق المغربي كان واعدا عندما تعلق الأمر بأدوية مصنعة في المغرب.
أجانب حاولوا السيطرة على سوق الدواء بالمغرب قبل 60 سنة
من بين الذين راهنوا على الاستثمار في المغرب منذ 1959، نجد المغربي اليهودي «فيكتور المالح». هذا الأخير الذي استقر في الولايات المتحدة الأمريكية منذ منتصف عشرينيات القرن الماضي وعمره وقتها لم يكن يتجاوز سبع سنوات، كان يعرف السوق المغربية جيدا، بحكم الأنشطة التجارية لعائلته في مدينة الصويرة، وأيضا بحكم استثماره في ماركة السيارات الألمانية «فولكسفاغن»، إذ كان أول مروج لهذه العلامة الألمانية في المغرب، بعد الحرب العالمية الثانية.
في سنة 1938، جاء فيكتور المالح إلى المغرب لكي يقضي فترة نقاهة، بعد مرض ألم به ولم يفلح الأطباء الأمريكيون في تشخيصه بشكل دقيق. وفي فترة الراحة في الدار البيضاء، التقى فيكتور المالح بعدد من رجال الأعمال الفرنسيين، واقترحوا عليه أن يشاركهم في تأسيس شركة أدوية للمنافسة في السوق المغربية التي كانت محتكرة تماما من طرف شركات فرنسية تفتح مخازنها في كل من الدار البيضاء والرباط للتوزيع على الصيدليات.
كان فيكتور المالح متحمسا في البداية للمشاركة، لكن «نيويورك» كانت أكثر إغراء بالنسبة إليه، وغادر المغرب بعد انتهاء فترة النقاهة، وتفرغ للاستثمار في الماركة الألمانية للسيارات وتعزيز وجودها في السوق الأمريكية، وركز أمواله في الهيمنة على سوق المياه المعبأة في أمريكا بعد 1944، وهو ما جعله يراكم ثروة بملايين الدولارات. ولم تتسن له الفرصة لمتابعة فكرة تأسيس شركة أدوية في المغرب.
بعد استقلال المغرب سنة 1956، عاد فيكتور المالح بشكل مؤقت إلى البلاد، وفكر في إطلاق مشروع استثماري، لكنه غادر خائبا، بعد أن اكتشف أن بعض الشخصيات النافذة في المغرب لا ترحب بوجوده. لم يتطرق فيكتور المالح قيد حياته إلى تفاصيل هذه المرحلة، لكنه اكتفى في حوارات صحافية مع المجلات الأمريكية، قبل وفاته سنة 2014، بالإشارة إلى أن سلوكيات بعض كبار المسؤولين المغاربة في بداية الستينيات لم ترقه.
هذه الواقعة يمكن ربطها بفضيحة ارتشاء الوزراء المغاربة الشهيرة سنة 1970، والتي فجرها رجال أعمال أمريكيين اشتكوا للملك الراحل الحسن الثاني عبر رجل ثقته الكولونيل المذبوح، من ابتزاز وزراء مغاربة لهم ومطالبتهم برشاوى، من أجل تمكينهم من تراخيص إنشاء فنادق فخمة في المغرب.
فكرة استثمار فيكتور المالح في مجال الأدوية ظلت بعيدة عن اختياراته الاقتصادية حتى في الولايات المتحدة. وقد علق في أحد الحوارات الصحافية التي أجريت معه سنة 2000، قائلا: «لم أفكر في الاستثمار في عدد من المجالات هنا في الولايات المتحدة، وذلك لأن فلسفتي في الحياة تقوم على عدم اتباع الموجة. أنا دائما أفضل اقتحام ما لم يجربه غيري. الاستثمار في مجالات بعينها في أمريكا انتحار اقتصادي.
من التجارب التي كان ممكنا أن أنجح فيها لولا التعقيدات الظرفية، تجربة الاستثمار في شركات الأدوية في المغرب، بلدي الأصلي. كانت السوق واعدة جدا في الأربعينيات خصوصا، لكن بعض التعقيدات والظروف حالت دون أن أستثمر في المجال، سيما وأن تركيزي في ذلك الوقت كان على السوق الأمريكية التي كانت تشهد حركية هائلة، بعكس السوق المغربية التي كانت بطيئة للغاية».
هذا المقتطف يكشف إلى أي حد كان فيكتور المالح يُدرك أهمية سوق الدواء في المغرب، في تلك الظرفية التاريخية الدقيقة. ورغم أن السوق المغربية وقتها لم تكن ممكنا مقارنتها بالسوق الأمريكية، بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن شركات الأدوية الفرنسية التي عملت في المغرب راكمت أرباحا بملايين الفرنكات، وكانت تستفيد من تشجيع وتسهيلات الإقامة العامة الفرنسية في الرباط.
شهادة فيكتور المالح تسلط الضوء على حقيقة استثمار الفرنسيين في سوق الأدوية داخل المغرب، وتؤكد أن السوق المغربية كانت امتدادا لسوق الشركات الفرنسية في غياب شركات تُنشأ في المغرب.
++++++++++++++++++++++++++++++++
قصة مجلس استشاري مغربي حاول تكريس امتيازات شركات الأدوية
عندما تفتقت «عبقرية» الفرنسيين عن إنشاء مجلس شورى، وكان أول مشروع برلمان في المغرب، لم يكن السياسيون الفرنسيون يتوقعون أن يحاول المغاربة قلب الطاولة عليهم وينتهي المشروع إلى الفشل.
بموجب ظهير وقعه السلطان محمد بن يوسف يوم 13 أكتوبر 1947، تم تنظيم عمل ما سُمي وقتها «الغرف الاستشارية المغربية»، وضمت تمثيلية عن التجار والفلاحين المغاربة، وكانوا جميعا من الأعيان والمؤثرين في الساحة المغربية وقتها.
وبحسب ما كُتب عن هذه التجربة، في مصادر فرنسية ومغربية أيضا، فإن الانتخابات التي أوصلت الأسماء المغربية إلى هذه الغرف، لم يُسمح بأن تكون نزيهة، وضيّق عليها الفرنسيون الخناق حتى لا تصل أسماء قد تخلق «المفاجأة»، إلى كراسي المجلس.
بحسب ما كتبه محمد مُلين في مذكراته، والذي كان موظفا في ديوان السلطان محمد بن يوسف في تلك الفترة: «..سُمح بشبه انتخاب لاختيار أعضاء مجلس شورى الحكومة، فلم لا يكون هذا المجلس أداة فعالة للقضاء على المعارضة المتتابعة من لدن السلطان ومخزنه».
يظهر إذن أن فكرة المجلس كانت بهدف خلق سلطة استشارية جديدة في المغرب، تنزع صلاحيات من السلطان الذي لم يكن يوافق على مقترحات فرنسية.
من بين ما رفض السلطان توقيعه، توسيع صلاحيات رجال أعمال فرنسيين في المغرب، من بينهم مُستثمرون في مجال الأدوية. إذ بحكم اتساع قاعدة المقيمين الفرنسيين في المغرب، خصوصا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1944، فقد كان رجال أعمال فرنسا يرون في المغرب سوقا استثمارية واعدة، وعملوا على انتزاع قوانين توسع من استغلال فرنسا للمغرب، على حساب مصالح المغاربة ومستقبل البلاد. ولم يسمح السلطان بتعميق تحكم الشركات الفرنسية في الاقتصاد المغربي. وحذره من يثق فيهم، من تبعات السماح لفرنسا بالهيمنة على السوق.
انتهت تجربة هذا المجلس بصراع بين المنتخبين المغاربة والفرنسيين، وانفجرت في إحدى الجلسات فضيحة إقصاء الأعضاء المغاربة، وهو ما أكد أن ممثلي غرف التجارة الفرنسيين كانوا فعلا ينوون الهيمنة المطلقة على السوق المغربية، بما في ذلك سوق الصناعات الدوائية.
إذ إن شركات الدواء الفرنسية الكبرى، كانت قد فتحت لها فروعا في المغرب، واقتصر نشاطها في البداية على تزويد الصيدليات المملوكة للفرنسيين بالأدوية في المدن المغربية الكبرى. ولم يكن مطروحا أبدا إنشاء أي معامل لتصنيع الدواء الفرنسي في المغرب، وإنما كان الهدف تسويقيا فحسب. وهو ما يفسره انتشار إشهارات لأشهر الأدوية الفرنسية في الصحف الصادرة في المغرب، والناطقة بالفرنسية.
كانت سياسة السلطان الشاب محمد بن يوسف واضحة في هذا الباب. لم يكن يرغب في أن يُسلم الفرنسيين مجالا سياديا يتعلق بصحة المغاربة، رغم أن كبريات المستشفيات في المغرب وقتها كانت تابعة للإدارة الفرنسية. لكن النصيحة التي تلقاها السلطان من مستشاريه، كان مفادها أن سوق الدواء لا يختلف في شيء عن «المكتب الشريف للفوسفاط». إذ حتى لو سُمح للفرنسيين بالعمل في إدارته، فإن سيادة المغرب على المجال يجب ألا تخرج عن أيدي المغاربة.
وبما أن ظرفية أربعينيات القرن الماضي، لم تكن تسمح بأن يؤسس المغرب إدارة لتدبير الصناعات الدوائية وسوقها في المغرب، فقد استقر القرار في الأخير على السماح للشركات الفرنسية ببيع أدويتها في المغرب، دون تأسيس أي إدارة من شأنها أن تسحب «الرخص» مستقبلا من بين أيدي المغاربة.
الصيادلة الفرنسيون كانوا في مرمى رصاص الخلايا السرية بالمغرب
بحسب ما توثقه معطيات محاضر الشرطة الفرنسية في المغرب، خصوصا ما بين سنتي 1953 و1955، أي فترة نفي السلطان محمد بن يوسف واشتعال الشوارع المغربية، فإن أعضاء الخلايا السرية للمقاومة استهدفوا في هذه الفترة، الصيادلة الفرنسيين الذين كانوا بمثابة «سفراء» لشركات الأدوية الفرنسية، التي رُوجت في المغرب خلال ذلك الوقت.
وبعكس رخص الخمور والسجائر الفرنسية، فإن مجال الأدوية لم يعرف أي منافسة مغربية للحصول على تراخيص التوزيع في المغرب. ولم يصدر الوطنيون أي مذكرات أو بلاغات نارية تحذر المغاربة مثلا من استهلاك الأدوية الفرنسية. رغم أن التاريخ يسجل حالة يتيمة في هذا الباب، تعود إلى سنة 1939، سوف نعود إليها لاحقا، إلا أن الصناعات الدوائية على العموم، ظلت بعيدة عن الصراعات السياسية بين الفرنسيين والوطنيين المغاربة.
بالعودة إلى محاضر الشرطة الفرنسية، سوف نورد هنا واقعة كان ضحيتها صيدلي فرنسي كان معروفا في الدار البيضاء، ويحظى بشعبية واسعة، بحكم لجوء المرضى المغاربة إلى صيدليته للحصول على الأدوية. وأصبح هدفا لأعضاء الخلايا السرية للمقاومة.
طيلة شهر ماي من سنة 1955، كان سكان منطقة «الكزا» بالرباط يلوكون حكاية المواطن الفرنسي «مارتين رودسي». كان يملك صيدلية في الحي، وكان أحد وجوه الحي المعروفة. تعرضت الصيدلية التي يملكها لحريق أتى على محتويات المخزن والمحل معا، وهو الحادث الذي كبد «مارتين» خسارة فادحة. كانت سيارات الشرطة السوداء لا تتحرك من أمام منزل المواطن الفرنسي، لتوفير الحماية له، والوصول إلى المتسببين في الحريق. لكن التحقيق الذي فُتح في الموضوع ظل بدون نتيجة، هذا على الأقل ما يقوله المحضر.
في الواقع، كان هذا الصيدلاني الفرنسي واحدا من كبار المدافعين عن السياسة الفرنسية في المغرب، أو هكذا اتهمه بعض أعضاء الخلايا السرية في الدار البيضاء. لقد تقاسم تنظيمان سريان «بطولة» الحريق، الذي تسبب في إفلاس مارتين.
لم يحدد المحضر هوية المتورطين في الحريق، لكن الأكيد أن الأضرار المادية التي تسببت في إتلاف مخزن الأدوية ومحتويات الصيدلية، قادت صاحبها مباشرة إلى الإفلاس، وهو ما كان يخطط له الفدائيون، رغم أن التحقيق كان يذهب في اتجاه البحث عن المتورطين في ما أسماهم المحضر «مخطط اغتيال الصيدلاني مارتين». ولو أن العملية هدفت إلى اغتيال الصيدلاني، لنفذت نهارا مثل الكثير من العمليات التي قادها أعضاء الخلايا السرية لتصفية مواطنين فرنسيين.
واقعة أخرى ذكرتها محاضر البوليس الفرنسي، تعود إلى بداية سنة 1955. بطلها مقاوم مغربي اسمه العربي بن عبد الله كان قادما من نواحي أزيلال، ومطلوبا لدى البوليس وصدرت في حقه مذكرة وطنية، ولجأ إلى المقاومين في الدار البيضاء، وقاموا بتقديم العون له ليختفي عن الأنظار لأسابيع، قبل أن يقرر المشاركة في عملية استهدفت مخبرا مغربيا وبائعا فرنسيا للأدوية في صيدلية بشارع الحرية.
«تحريم» أدوية على المغاربة كبّد شركة فرنسية خسائر بفاس
الواقعة تعود إلى سنة 1939، وجاءت في سياق المخطط الذي قادته الحركة الوطنية للتأثير في الاقتصاد الفرنسي في المغرب، عندما دعا أعضاء الحركة الوطنية، وبينهم علماء يحظون بكثير من التقدير والتوقير، المغاربة إلى مقاطعة منتجات فرنسية بحجة أنها تحتوي على مواد محرمة، أو بسبب أضرارها على الصحة العامة مثل السجائر والخمور.
تكبدت شركة فرنسية خسائر فادحة، بحكم إطلاق الوطنيين إشاعات مفادها أن الدواء الذي صنعته الشركة الفرنسية «گاما» والذي يوصف لمغص الأمعاء، يحتوي على الكحول، ودعوا المغاربة إلى عدم استهلاكه، رغم أنه كان يوزع مجانا من طرف الفرنسيين في فاس.
كان بعض الأطفال يعانون من الإسهال الحاد، بسبب تلوث مياه الشرب في أحياء فاس العتيقة، وهو ما جعل الفرنسيين يمنحون جرعات من الدواء للأسر التي تأتي إلى المستشفى بحثا عن العلاج.
تخوف الوطنيون من أن يكون توزيع الدواء بهدف استمالة المغاربة، وانتشرت الإشاعة التي تفيد بأن الدواء يحتوي على الكحول، سيما وأن الزجاجة التي تحفظ الدواء، حتى لا يتأثر بالضوء، كانت تميل إلى السواد، وتشبه في شكلها قنينات تعبئة الخمور، وهو ما ساعد على انتشار الإشاعة أكثر.
من فاس، انتقلت الإشاعة إلى مناطق أخرى، وهو ما جعل المغاربة يحذرون من الأدوية الفرنسية، مخافة أن تحتوي على مواد محرمة. ورغم أن الشركات الفرنسية كانت تنشر إشهارا على صفحات المجلات المغربية الأولى الناطقة باللغة العربية، لاستمالة المغاربة وإقناعهم باستهلاك الأدوية الفرنسية، إلا أن تلك الحملات لم تفلح في محو التأثير الذي تسببت فيه دعوات علماء القرويين إلى مقاطعة هذه الأدوية، خصوصا في أوساط البسطاء من الناس.
هذه الإشاعة تسببت في أضرار لشركات الدواء، وظل استهلاكها حبيسا على الفرنسيين، رغم أن معطيات تاريخية تؤكد أن المغاربة أقبلوا على الأدوية الفرنسية، بحكم انتشار الأمراض، وظهور نجاعة الأدوية العصرية في علاج أمراض ظل المغاربة يعانون منها لقرون.
ما يؤكد قصة الإشاعة التي استهدفت عقار مغص الأمعاء، ما عممته بعض المنشورات سنة 1950 من معلومات عن توفر المشروبات الغازية التي ظهرت مع وجود الأجانب واستقرارهم في المغرب، بعد إنزال 1943 الشهير في الدار البيضاء، على مستخلصات من دم الخنزير، وصُدقت تلك الإشاعات فعلا، والتي عزز انتشارها ما نقلته صحف مصرية أيضا بالمضمون نفسه، وتكبدت شركة «كوكا كولا» خسائر فادحة في أربعينيات القرن الماضي ولم تبع مخزون مشروبها، إلا بعد إنجاح حملة مضادة في الصحف، تؤكد أن المشروب لا يحتوي نهائيا على أي مستخلصات من شحم أو دم الخنزير.
التخوف من أن تحتوي بعض الأدوية على مواد محرمة مثل الكحول، ساهم في إنجاح حملات المقاطعة للمنتجات الفرنسية. لكن نجاعة الأدوية الفرنسية، وحاجة المغاربة إلى العلاج في فترة الأربعينيات والخمسينيات، جعلتا أي محاولة من الحركة الوطنية لشل اقتصاد شركات الدواء الفرنسية تبوء بالفشل.
الأدوية أنقذت صحافيا بريطانيا من الموت في «جْبالة»
هذه الواقعة الطريفة التي وثق لها الصحافي البريطاني لاورنس هاريس سنة 1909 في مذكراته، تكشف إلى أي حد كان المغاربة في حاجة إلى الدواء. هذه الأحداث سبقت دخول شركات الأدوية الفرنسية إلى المغرب بعقود، وتصف حجم الفراغ الكبير في سوق الأدوية العصرية داخل المغرب.
عندما كان هذا الصحافي عائدا بعد انتهاء مهمته في فاس توقف بالقرب من طنجة ليقضي الليلة، لكن مرافقه، أو بالأحرى «خادمه» أثناء السفر تحمس أكثر من اللازم، وتسبب له في إحراج كبير مع سكان قرية في منطقة «جْبالة».
يحكي لاورنس هاريس في مذكراته:
«حاول العربي أن يبهر الناس الذين كانوا يستمعون إلى قصصه، ونسج عدة أكاذيب عني وكيف أنني أستطيع شفاء الناس، وكيف اخترته ليكون خادمي، لأنه ذكي بشكل خارق. لو أنه يفكر فقط في عاقبة كلامه.
جلسنا للعشاء، أضيئت الغرفة بما تبقى من الشموع، لأننا لم نعد نحتاجها بعد الآن. قام العربي بوضع أزيد من عشرين شمعة في إناء صفيحي، ووضع شموعا أخرى في أرجاء الغرفة. كان منظرا لم يشهده سكان القرية من قبل.
ما إن انتهى العشاء حتى تقاطر إلي الناس، بسبب ثرثرة العربي بخصوص قدرتي على شفاء الأمراض وعلاجها. جاءت إلي نساء وأطفال بأمراض حقيقية وأوبئة، ولكي أعالجها جميعا، سيلزمني أن أبقى مستيقظا الليل بأكمله، وأن أتوفر على خبرة طبيب جراح في مستشفى لندن!
الصبيان كانا يستمتعان بالمنظر، يحملان الأوراق دون تمييز ويضعانها على صدر الطاولة. بلغ الأمر ذروته عندما بدأت بدون تدبير، توزيع بعض أدوية السعال. أولئك الذين كانوا متجمهرين بدؤوا في السعال متظاهرين بالمرض ليحصلوا على الدواء أيضا، وهو ما خلق نوعا من الضجيج لم أستطع معه سماع نفسي عند الحديث. الأطفال والنساء والشيوخ والبنات، الجميع بدأ في السعال بدون مناسبة، رافعين أيديهم كي يحصلوا على دواء السعال. كان مستحيلا أن يحصل الجميع على الدواء، لأنني كنت أملك القليل مما احتجته في الرحلة، لم تكن مهمتي أن أعالجهم، لكن ما العمل!
قبل أن أحاول منعهم، حل العربي المشكل بطريقة مبتكرة. من بين الأدوية التي كنت أتوفر عليها، كانت هناك علبة تحتوي على كبسولات للإسهال، وكل كبسولة تحتوي على جرعتين، وبدأ الوغد يوزعها على الناس، ليشربوها بنهم وكأنهم يأكلون الحلويات.
تلك الواقعة جعلتني أعجل بمغادرة القرية مع أولى ساعات الصباح الباكر، لم أجرؤ على الانتظار لأرى نتيجة ممارستي الطب».
لا تهم الحكاية هنا، على طرافتها، بقدر ما يهم تأثير «الدواء» على نفسية المغاربة في ذلك الوقت. فقد فطن مرافق الصحافي هاريس إلى هذا الأمر، وأنقذه من موت محقق في مناسبة سابقة، عندما وصل الاثنان إلى نفوذ قرية أوقفتهما ومن معهما على الفور، ولولا الكذبة الذي ألفها المرافق، لما أطلق سراحهما. يقول هاريس: «أحاط بنا الرجال من كل جانب وسألونا عن السبب الذي جعلنا نجرؤ على العبور من بلدتهم. العربي تصرف كمتحدث باسمنا، وكدت أنفجر ضحكا من الأكاذيب الرائعة التي كان يقولها لهم.
لقد أخبرهم أنني طبيب السلطان، وأقوم بجولة بين التلال لجمع بعض الأعشاب المخصصة للدواء، ولا يجب أن أتأخر لحظة عن السلطان، لأنه سيرسل في الانتقام من جميع القبائل التي تؤخر عمل الطبيب. عندها بدأ رجال القبيلة في الاعتذار، ورافقونا إلى أعلى التلة».
ما أسماه هاريس في هذه المذكرات «سطوة» الطب، كانت فعلا دليلا دامغا على حاجة المغاربة إلى أدوية فعالة لعلاج الأمراض التي كانت منتشرة في ذلك الوقت، والتي كانت الأدوية الكيماوية، السبيل الوحيد إلى شفائها.