شد القاضي وطلق النوطيرة
بالتزامن مع اعتقال القاضي السابق ماء العينين ماء العينين، وقد كان رئيس غرفة بمحكمة النقض، بسبب شبهة حصوله على رشوة بقيمة 50 مليون سنتيم، قضت المحكمة الابتدائية بالرباط بإدانة الموثقة صونيا العوفي، نجلة الوكيل العام السابق لدى محكمة الاستئناف بالرباط، بسنة ونصف حبسا نافذا بعد اتهامها بالنصب والاحتيال وخيانة الأمانة.
ويبدو أن الفترة الراهنة هي فترة صدور الأحكام بالسجن والاعتقال بالنسبة لكبار المسؤولين القضائيين والموظفين العموميين، فبعد اعتقال باشا فاس واعتقال قاضي محكمة النقض، ها نحن نرى كيف تشجعت المحكمة أخيرا وأصدرت حكمها بالسجن سنة ونصف في حق ابنة وكيل عام سابق كان يقام له ويقعد في الرباط والريف.
ورغم مكانة ماء العينين في السلم القضائي، باعتباره قاضيا سابقا مدى الحياة ظل يستفيد من الامتياز القضائي، فقد تم اعتقاله ووضعه بسجن الزاكي مباشرة بعد إعلانه استقالته احتجاجا على ما سماه استهداف سمعته، لكن هناك من لا يزال يستفيد من الامتيازات القضائية بدون وجه حق، على غرار بنت العوفي، التي أحيلت على المحكمة الابتدائية في حالة سراح على خلفية بيعها لأرض وهمية لأحد رجال الأعمال وسحبها وديعة بشيك قدمها المشتري المفترض قدرها مليار سنتيم ووضعها في حسابها الخاص، في حين تم اعتقال بعض زملائها الموثقين الذين كانوا متابعين في الملف نفسه.
وقد ظل هذا الملف يراوح مكانه منذ أزيد من خمس سنوات، بعدما واجهت المحكمة الموثقة صونيا العوفي بالحجج والقرائن التي تؤكد صحة الأفعال والأخطاء المهنية التي ارتكبتها، وتعود وقائع النازلة إلى سنة 2009، حين كانت الموثقة المذكورة بصدد إبرام عقد بيع أرض تناهز مساحتها 5 آلاف هكتار توجد بجماعة «أنجيل اختارن» التابعة لعمالة بولمان، يقدر ثمنها بما يزيد عن 22 مليار سنتيم، لمالك «شركة بئر قاسم» الراحل أحمد بنبريكة، والذي سلمها وديعة شيك بمليار سنتيم، قامت بسحبها ووضعها في حسابها الخاص وليس في حساب المكتب أو تحويل المبلغ لصندوق الإيداع والتدبير، فيما البائع لم يف بوعده والتزامه التعاقدي ولم يدل بالرسم العقاري للأرض موضوع البيع، حيث اتضح أن الأرض التي يدعي أنه يملكها توجد في ملكية الورثة، مما تسبب للشركة في الإفلاس وعرض مالكها لوعكة صحية صعبة جعلته يفارق الحياة بسبب «الفقصة» بعدما طال انتظار إصدار حكم لاسترجاع حقوقه.
وفي البداية تم استدعاء الموثقة صونيا العوفي إلى المحكمة لكي تحضر كشاهدة في الملف وليس كمتهمة، وحتى وهي تستدعى كشاهدة لم تكلف نفسها عناء الحضور للإدلاء بشهادتها، ففي الوقت الذي قضت فيه المحكمة بمتابعة الموثقين وشركائهم في حالة اعتقال، كانت صونيا العوفي، ابنة الوكيل العام للملك، تحضر عرس أخيها إلى جانب وزير العدل الأسبق، أما شريكها البوخاري، الذي توسط بينها وبين الشركة الفرنسية الإيطالية التي تم النصب عليها في مبلغ مليار سنتيم كتسبيق مقابل أرض مساحتها 5000 هكتار بنواحي بولمان بعدما وعد البوخاري مسؤوليها بإتمام بيعها عند الموثقة، فقد كان في تلك الأثناء «يبرد» عظامه في سجن الزاكي بسلا.
وطبعا، فالبوخاري ليس ملاكا، فهو كان يعرف أن أحد مدراء الموارد البشرية في أحد البنوك البيضاوية متزوج من وريثة تملك 30 في المائة من الأرض، ووقع وعدا بالبيع مع منعش عقاري لبيع الخمسة آلاف هكتار، وعندما فطن المنعش العقاري إلى أن البوخاري بصدد بيع الأرض وراء ظهره لشركة فرنسية إيطالية في مكتب الموثقة صونيا العوفي، بدون أن يتوفر على إذن بذلك من الورثة، وضع شكاية ضده أمام القضاء، فكان طبيعيا أن تتم متابعته واعتقاله.
ما ليس طبيعيا في هذه القصة هو عدول الوكيل العام للملك السابق بالرباط عن متابعة ابنته الموثقة صونيا العوفي التي أنجزت عقد البيع، رغم عدم توفرها على الوثائق القانونية الكاملة لإنجاز البيع.
وعندما وصلت رائحة طبخة المليار سنتيم التي أعدتها الموثقة صونيا العوفي إلى خياشيم والدها الوكيل العام للملك السابق، فهم أن الطبخة ستحترق إذا لم يسارع إلى إضافة الكثير من الماء إليها، وهكذا أمر ابنته الموثقة بإعادة مبلغ مليار سنتيم إلى البنك، والخروج من الملف كما تخرج الشعرة من العجين.
هذا في الوقت الذي ذهب فيه شريكها إلى السجن، والسؤال، الذي يطرحه قضاة وموثقون ومحامون في الرباط، هو لماذا يسري القانون على الموثقين الذين ليست لهم جداتهم في العرس فيتابعون في حالة اعتقال أمام المحكمة، فيما تتعطل لغة القضاء عندما يتعلق الأمر بموثق أو موثقة تربطها علاقة قرابة مع بعض النافذين داخل الجسم القضائي ؟
والواقع أن صونيا العوفي وجدت نفسها في عالم التوثيق بسبب الصدفة لا غير، فبعد أن «سقطت» ثلاث سنوات متتالية في السنة الأولى من شعبة البيولوجيا، «طاحت» عليها فكرة اقتحام مهنة التوثيق. وبعد قضائها لفترة قصيرة كمتدربة عند واحد من أكبر مكاتب التوثيق في العاصمة، اجتازت مباراة الدخول أمام لجنة تحكيم يوجد على رأسها، ويا للمصادفة العجيبة، والدها حسن العوفي.
وبعد ابتسامات وإطراءات قصيرة، خرجت صونيا بدبلوم «موثقة» تحت ذراعيها، وهو الدبلوم الذي «يتشحطط» المئات من أبناء الشعب ما بين عشر وخمس عشرة سنة وراءه قبل الحصول عليه. هذا إذا سمحت لهم العائلات العشر التي تحتكر هذه المهنة منذ الاستقلال بالدخول إلى ناديها محكم الإغلاق.
وحتى قبل أن تفتح الموثقة صونيا العوفي مكتبها الفخم بأكدال، سبقتها بطاقات زيارتها حيث اسمُها ورقمُ هاتفها إلى مقاهي العاصمة والناظور، مسقط رأس عائلتها، وكان موزع البطاقات يقول لكل من يسلمه واحدة منها إن الموثقة صونيا هي ابنة الوكيل العام للرباط، وإن أي مشكلة تعرض عليها تستطيع أن تجد لها الحل.
ثلاث سنوات بعد فتح مكتبها بحي أكدال، استطاعت صونيا أن تبني فيلا فخمة في منطقة بير قاسم، ومن أجل تصميم ديكورها، لجأت إلى خدمات مصمم متخصص، أما الأثاث فقد جلبته كله من الخارج، خصوصا من «مالغا» بإسبانيا حيث عود حسن العوفي أبناءه على قضاء عطلهم في شاليهات «ماربيا» التي يتردد عليها باستمرار.
وهكذا، اشتهر اسم الموثقة صونيا العوفي بسرعة في كل أنحاء المملكة، وأصبح كل من يريد أن ينجز وثائق وعقود البيع والشراء يأتي إلى مكتبها، كما أصبح عنوانها مقصدا لكل من لديه مشاكل قضائية عالقة ينتظر حلها.
وسارت الأمور بشكل جيد بالنسبة إلى الموثقة صونيا إلى أن انفجرت قضية الموثقين الذين ينصبون على عقارات الدولة، وطارت رؤوس بعضهم وتلطخت ثياب البعض الآخر بالدماء.
ويبدو أن «الشلة» فهمت أن القضية «حامضة» هذه المرة، خصوصا بعد صدور تعليمات مشددة بتطبيق القانون إثر اكتشاف الأمن لاستعمال أحد المتورطين خواتمَ تحمل رموز المملكة.
ورغم كل الصرامة والتشدد اللذين أحيط بهما الملف، ورغم تضامن جمعية الموثقين مع زملائهم المعتقلين وتهديدهم بالوقفات الاحتجاجية أمام المحكمة ووزارة العدل، فإن الوكيل العام للملك السابق بالرباط استطاع أن يخلص ابنته من براثن المتابعة القضائية، وأن يخرجها من الملف ويحولها إلى مجرد شاهدة بعد أن كانت هي الموثقة التي حررت عقد البيع المطعون في صحته، وعندما كتبنا في هذا العمود حول هذه القضية، اشترت مساحات إشهارية في صفحات جريدة الصيرفي لنشر بلاغ لتلميع صورتها، قبل أن تقرر المحكمة متابعتها والحكم عليها بعد إعفاء والدها من مهامه، في حين توفي رجل الأعمال الذي تعرض لعملية النصب والاحتيال، بعد إفلاس شركته وتشردت أسرته.
فكيف إذن يتم اعتقال القاضي السابق ورئيس غرفة بمحكمة النقض بسبب شبهة رشوة بخمسين مليونا، فيما يتم «تمتيع» الموثقة ابنة الوكيل العام السابق للملك بالمتابعة في حالة سراح رغم الحكم عليها بسنة ونصف حبسا؟