شوف تشوف

الرأيالرئيسية

سيناريو الطوفان

في المقابلة التي أجرتها مجلة «دير شبيغل DER SPIEGEL» الألمانية، في عددها 50 من عام 2000م، مع البروفيسور «بوركهارد فليمينغ BURKHARD FLEMMING»، رئيس قسم «أبحاث المحيطات» في معهد «سنكينبيرغ SNECKENBERG»، بالمدينة الساحلية الشمالية من ألمانيا «فيلهلمسهافن WILHELMSHAVEN»، وهي التي تابعت فيها اختصاصي في الجراحة، حاول أن يرسم سيناريو دقيقا لطوفان فاق كل تصور، حدث في منتصف الألف السادسة قبل الميلاد. حسب ما كشفت عنه آخر أبحاث الأركيولوجيا، حول ولادة البحر الأسود بمخاض كوني مدمر على النحو التالي:

قبل 18 ألف سنة كان العصر الجليدي في ذروته وكان منسوب المياه مختلفا بين بحيرة كانت في منطقة البحر الأسود الحالي وبحر مرمرة والبحر المتوسط. وإذا تأملنا الوضع جغرافيا الآن، فإننا نرى أن البحر الأسود متصل بالبحر المتوسط من خلال فوهتين، الأولى مضيق «البوسفور» والثانية وهي أطول وتتمثل في ممر «الدردنيل» المعروف تاريخيا بـ«الهلسبونت»، وهو الذي عبره الملك الفارسي «كزركسيس» في القرن الخامس قبل الميلاد، في محاولة لاجتياح بلاد اليونان، وبين الفوهتين بحر مرمرة الصغير.

ولكن الوضع قبل 18 ألف سنة لم يكن كما هو الآن، فمكان البحر الأسود الحالي كانت بحيرة أصغر حجما منه ومنفصلة عن بحر مرمرة، المنفصل أيضا بدوره عن البحر المتوسط في مناطق معزولة عن بعضها البعض. ليس هذا فقط، بل كذلك التفاوت في مستويات المياه، فقد كان منسوب المياه قبل 18 ألف سنة في البحر المتوسط أقل مما هو عليه الآن بـ130 مترا. أما في بحر مرمرة فكان أعلى من ذلك، وبمستوى ناقص خمسة وستين مترا عما هو عليه الآن. أما البحيرة السوداء فكانت في الأسفل تماما، وتنخفض عن منسوب المياه الحالي بناقص 120 مترا.

ثم بدأت المرحلة الأولى من التحول البيئي والجيولوجي في التاريخ المذكور، فقد ارتفعت حرارة الأرض تباعا بما التهمت به حتى اليوم 8 في المائة من اليابسة. وفي المرحلة الأولى قفز منسوب المياه في البحر المتوسط إلى ناقص ستين مترا عن منسوب المياه الحالي، أي بارتفاع سبعين مترا بما فاض إليه من مياه المحيطات من ذوبان مدرعة الجليد في الشمال، التي بلغ سمكها في أوروبا لوحدها كيلومترين، وكانت ممتدة حتى براندنبرغ في بولندا الحالية.

إن هذا الانكسار في المناخ رفع مستوى المياه في المحيطات ودفعها عبر مضيق جبل طارق إلى المتوسط إلى بحر مرمرة؛ بحيث كان دفع المياه من القوة والعنف ما حول الحجارة والحصى أمامه إلى ما يشبه (المدحم) لتحطيم الحاجز بين بحر مرمرة والمتوسط، وليتحقق مستوى التعادل بين البحرين إلى مستوى ناقص ستين مترا عما هو عليه الآن.

وقبل 12 ألف سنة وتدريجيا ارتفع مستوى المياه من جديد في بحر مرمرة إلى ناقص خمسين مترا، عما هو عليه الآن وبزيادة عشرة أمتار عما كان عليه، مما جعله يقفز فوق حافة السد الواقف أمام البحيرة، وكان هذا معناه تفجير عتبة البوسفور بالكامل وتحطيم هذا الممر البري الذي كان يصل بين أوروبا وآسيا.

وإذا عرفنا أن منسوب المياه في البحيرة السوداء كان ناقص 120 مترا عما هو عليه الآن ومستوى المياه في بحر مرمرة ناقص خمسين مترا، فمعنى هذا أن المياه كانت تهوي من ارتفاع سبعين مترا بما هو أقوى من شلالات نياغارا بـ200 مرة، حسب الدراسة التي قام بها الجيولوجيان الأمريكيان «والتر بيتمان WALTER PITMAN» و«ويليام راين WILLIAM RYAN» كانت كمية المياه المتدفقة اليومية بحجم بحيرة تبلغ خمسين كيلومترا مكعبا، بحيث رفعت مستوى المياه في حواف البحيرة بمعدل 15 سنتيمترا يوميا كما يحدث

لـ«البانيو» عندما يفيض بالماء و(تطفطف) حوافه مندلقة بالماء الزائد، وهي هنا بابتلاع اليابسة وما حوت من بشر.

وكان زحف المياه 400 متر في اليوم لتدوم هذه الحالة مدة 300 يوم ولتنهض مستوى المياه في البحيرة في النهاية إلى مستوى الماء في المحيطات، حسب قانون (الأواني المستطرقة)، الذي اكتشفه الفيلسوف «باسكال»، وينص على تعادل مستوى المياه عند اتصال أحواضها معا، مهما كانت الأحجام. بحيث ارتفع مستوى المياه في البحيرة أخيرا إلى ارتفاع زاد على 120 مترا عما كان عليه، وتساوت مستويات المياه بين البحر الأسود المتشكل وبحر مرمرة والبحر المتوسط والمحيط الأطلنطي المتصل به. وهو أكثر مما جاء في العهد القديم عن ارتفاع بلغ 15 ذراعا، أي أن الطوفان كان يشبه ما جاء في ألواح سومر والعهد القديم، مما رَسَخَ في الذاكرة الجماعية الإنسانية، ولكن على نحو أشد هولا. وفي النهاية غمرت المياه المتدفقة مساحة مائة ألف كيلومتر مربع، بما فيها القرم وأوكرانيا الحالية وبلغاريا، وضربت بعنف مرتفعات القوقاز، فضلا عن كل الشواطئ التركية، وأخذت معها شعوبا بأكملها إلى لجة المياه.

يقول «فليمينغ» إن الشعوب التي كانت في الأماكن الواطئة وفوجئت بالطوفان لم يكن لها حظ في النجاة، أما البقية فكان عليهم أن يتركوا خلفهم كل شيء وينطلقوا هائمين على وجوههم وهم ألوف حذر الموت. ويقدر علماء الأنثروبولوجيا أن أعداد المشردين تجاوز المائتي ألف نسمة.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار أعداد البشر القليلة على ظهر الأرض في الألف الثامنة قبل الميلاد؛ فلربما قارنا هذه الكارثة اليوم مع طوفان دفع بـ200 مليون من البشر إلى ترك بلادهم، وهذا يقرب إلينا فكرة رسوخ هذه الواقعة في الذاكرة الجماعية حتى اليوم.

وإذا أضفنا عنصر بدايات الحضارة والتمكن من الزراعة وتحقيق فائض الغذاء، كان معناه أن من تشرد كانوا زبدة وأفضل أنواع الجنس البشري من الناحية التقنية، كما لو تشرد أهل الولايات المتحدة الأمريكية اليوم في كارثة عارمة، أو اجتاح إعصار التيفون الجزر اليابانية الثلاث الرئيسية، فأخذها بما حوت من البشر.

 

خالص جلبي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى