سيكون عام 2016 دمويا بامتياز
سيكون عام 2016 دمويا بامتياز، فالطيران الروسي يحرق، والدبابات الأسدية تهرس، ومدفعية إيران تدك وتفتك، والقتال الشرس بين الأكراد والعجم والعرب والقوزاق لا يرحم.
ما يحدث في سوريا ثورة مسلحة دموية، في قسم منها طائفية، وإقليمية تخوضها قوى شتى، ومخابرات عالمية، والكل يقول النهاية لي وما من نهاية في الأفق.
الجو النفسي جدير بالتحليل لأثره المدمر أو الباني في المستقبل. هناك العديد من التجليات النفسية السلبية والخطيرة، فحاليا نجح الأسد الابن بجر الثورة من منطلقاتها الثلاث إلى عكسها وضدها تماما. كانت الثورة تقول لا للعنف والتسلح، فتسلحت وأصبح لها أنياب وأظافر ومخالب. كانت الثورة تقول لا للطائفية وحاليا المعركة نصفها طائفي، والعلويون لم ينفضوا أيديهم بعد من عائلة الأسد وهو موقف سيدفعون ثمنه مستقبلا. فليس كل الثوار متسامحين وعقلانيين.
وليس غريبا قول الطفيلي مؤسس حركة حزب الله باحتمال تحالف صهيوني مع حزبه مع تدفق المقاتلين المتشددين من السنة. وهناك العديد من الشرفاء والشريفات من العلويين والعلويات، ولكن الكتلة الضاربة من العلويين مازالت في صف النظام، إيجابا بالقتال في صفوفه، أو سلبا بالصمت مع غالبية الصامتين، وهم ليسوا علويين بالضرورة.
كانت الثورة تقول إنها ضد التدخل الأجنبي، وهي حاليا تطالب بإلحاح بالتدخل الأجنبي، بعد أن قفز الأسد الابن إلى مستوى القسوة المفرطة، بدك المدن بالمدافع والطائرات والبراميل وصواريخ السكود والغازات السامة، وما حصل أن التدخل حصل ولكن من روسيا بجنب سوريا.
ما يجري حاليا في سوريا هو حرب دموية بامتياز. والحرب تختصر بثلاث كلمات: جنون وإفلاس أخلاقي وجريمة. كتب لي الدكتور عمار من حوران أن الساحة حرب والحرب تخرج أقذر الغرائز البهيمية عند البشر، حيث لا يبقى قانون ويتحول المجتمع إلى غابة يحكمها الظفر والناب. في الحياة العادية إذا خدش جار سيارة جاره اعتذر وتقدم بالتعويض، أما في الحرب فيقتل الإنسان أخاه الإنسان فلا يحاسب بل يكافأ ويعتبر بطلا قوميا.
حسب دراسات كتاب العبقرية والإبداع لسايمنتون (سلسلة عالم المعرفة) فإن أكثر المجانين من جنرالات الحروب وضعت على صدورهم النياشين، وأكثر الأغبياء والمعتوهين هم ضباط الحروب. في سوريا اعتبر مثلا المجرم (شفيق فياض) بطلا لأنه ساهم في دعم نظام الأسد الأب في حلب في ثمانينات القرن العشرين، بإذلال الناس وإهانتهم وسلب أموالهم وكرامتهم، وتمشيط كل مدينة حلب بيتا بيتا بما يعجز عنه أبالسة الجحيم. فهل نفهم معركة حلب الحالية في شتاء 2016؟
من أبرز المظاهر السلبية في الثورة السورية الحالية تجليات الكراهية؛ إذا تكلم لافروف أو المعلم أو الأسد الابن أو خصومهم من رجالات المعارضة؛ فالحديث هنا يدور حول الحواف الحدية والكراهيات المتبادلة. في علم النفس، العواطف متبادلة فالكراهية تحصد الحقد، والبغضاء تفجر الدم. نحن نعيش حاليا في وسط مشبع بالكراهية والأحقاد المتبادلة وتحييد العقل وروح السلام والتسامح والحلول الوسطية. إننا نعيش وسطا غير صحي البتة. ففي العادة مع ظروف المرض يقصد الناس العيادات الطبية، أما في جو الحروب كما يقول فرويد فينشط التانتوس (مشاعر الفناء).
الحديث الآن للبارود والقوة والنار والعضلات وخناجر الشبيحة حتى يأذن الله بانقلاب الدورة على صورة ما. نحن من نتحدث عن اللاعنف بيننا وبين الأنفوميديا حجاب؛ فالقوم صم بكم عمي فهم لا يعقلون.
الكلفة باهظة للثورة السورية والفاتورة عالية جدا. وهذا يذكرني بالجراح الذي يدخل في عملية جراحية بسيطة؛ فيحسب حسابه أنها ستنتهي في نصف ساعة، فتطول خمس ساعات، مع نزف شديد، ودماء غزيرة، وحالة صدمة وفي النهاية نقل المريض للعناية الفائقة المركزة (ICU) بأنبوب وخراطيم ومصرفات وسيرومات ورافعات ضغط.
في سوريا ليس ثمة مكان اسمه عناية فائقة، فالمشافي الميدانية تقصف والعيادات تدك، والأطباء يقتلون، والجرحى في المشافي العامة يذبحون. إنه التجلي الأعظم للحقد المتبادل.
يجب أن نعترف للأسد الأب، ومن بعده والد وما ولد، حاليا الابن؛ أنه فجر نوازع الشر، وأخرج من بطون الناس أقذر ما فيها، وفتح صندوق (باندورا) ففاحت الشرور، واعتمد الحل الأمني فلم ينجح، بل قاد خصمه إلى نفس المنزلق. كان المقتول رستم غزالة الحوراني ذراع النظام وحاكم لبنان الفاشي في عهد الأب يكرر على مسامع الحوارنة، سيكون تدمير حماة مع ما ينتظركم نزهة، وقد صدق وهو المقتول في هذه النزهة.
إنها نفس العين الحمئة القذرة من القتل المتبادل، ماذا تتوقع من أناس تهبط بيوتهم فوق رؤوسهم وينكبون بقتل أحبابهم تحت قصف طائرات السوخوي. إنها مظاهر لا يرويها الأجداد عن حملة غورور الفرنسية ولا مذابح بني صهيون، لأن سوريا تعيش كل يوم في مذبحة. درعا والصنمين والحولة والقبير وداريا وجسر الشغور وحلب وجبل التركمان وعشرات عشرات المذابح. فقط تتحرك في الذاكرة مذابح المغول من العصور الوسطى في الوقت الذي نعيش القرن الحادي والعشرين، والزمن لا يهم بل المهم العقلية.
هناك الكثير من البشر يعيشون الزمن ولكن بعقلية متوقفة في مربع الزمن، لنتذكر الصرب ومذابحهم في البلقان. كان المجرم (سلوبودان ميلوسوفيتش) الذي مات بالشهقة في سجن لاهاي لمجرمي الحرب يزعق عام 1989: «ليلتصق لساني بحلقي إن لم أذكرك يا أمسل فيلد» وأشعل معه الصرب الشموع لذكرى مر عليها 600 عام. إنهم يحيون ذكرى معركة أمسل فيلد التي وقعت عام 1389م بين ملكهم لازار والملك العثماني مراد الرابع. وكلا الملكين قتلا في المعركة فما أبأسها من ذكرى.
كلفة الحرب في سوريا حاليا مخيفة. كثير من المحللين يرى أن هناك أياد خفية من أطراف خلفية حريصة على طول الحرب، وتفتيت سوريا بالتشتت إلى دول خرافية ، واحدة للعلويين وأخرى للدروز وثالثة للأكراد ورابعة لا أدري لمن؟ فالانتحار يسري على الجميع والسفينة تغرق بالكل.
المهم أن سوريا ستخرج من هذه الحرب وهي نموذج المريض المصاب بالأنيميا (فقر الدم)؛ فهو يجرّ أقدامه جرا، ويحتاج فترة طويلة للمعافاة، وهي فترة يستريح فيها بنو صهيون أو هكذا يتخيلون، بعد أن أعطاهم الأسد الأب استراحة أربعة عقود؛ فلماذا لا تسحب مع الابن أربعة عقود أخرى، ولو على أنقاض سوريا مقبرة ومهدمة. المهم بقاء عائلة السنوريات في سدة الحكم كما قال البدوي قديما: يا حبذا الإمارة ولو على الحجارة. الأسد أو نحرق البلد!! يبدو أن نجم دولة المخابرات الأسدية العلوية من بقايا دول الحشاشين والقرامطة ماض في الأفول، ولكن لن يبقى حجر على حجر.
ومن أخطر ما يترتب على الثورة السورية الحالية تعميق الشرخ السني الشيعي، ولا نعرف إلى أي عمق في الفالق يصل، فالفوالق الجغرافية يمكن أن تكون بنماذج ثقافية خطيرة. من هذه النماذج من الفوالق الأرضية صراع البوسنة حيث بدأ التصدع من عام 389 م حين تم اقتسام الإمبراطورية الرومانية إلى شرقية وغربية بين أونوريوس وأركاديوس. وعند هذا الصدع التاريخي نشأت العقائد من أرثوذوكس وكاثوليك. وحين دخل الأتراك البلقان مل فريق من الصرب هذا الصراع فاعتنقوا الإسلام ودفعوا ثمن هذا «الخطأ التاريخي» دماء لا تنتهي حتى اليوم، والنموذج البوسني ليس الوحيد في مهازل التاريخ.