سياحة وعلاقات عامة آلت إلى الإخفاق
أخفق الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون في إحراز تقدم ظل ينشده لإبرام اتفاق إسرائيلي – فلسطيني يتوج نهاية ولايته. كان أكثر تفهما للحاجة إلى إقامة سلام في الشرق الأوسط، ينهي أحقاد المنطقة وأزماتها التي ما فتئت رقعتها تتسع. ومثل كل الرؤساء الأمريكيين الذين يفكرون بمنطق الانتخاب وضغوط اللوبيات الأشد تحكما في أنفاس سياسة واشنطن، اعتقد في إمكان تحقيق تطور يصمد في وجه تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي المتواصل. وليس مثل الرؤساء الأمريكيين من يضيق ذرعا بمحدودية الحركة، كلما تعلق الأمر بالعجز عن مناهضة سياسة إسرائيل.
في البيت البيضاوي الذي يعج بأسرار الكون، جلس كلينتون يراجع أوراقه، ثم دار في اتجاه الوزير عبد اللطيف الفيلالي، وسأله أن ينقل تمنياته إلى العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني، عساه يقوم بمبادرة أخيرة بين إسحاق رابين وياسر عرفات. فهو يتمتع بخصائص تجعله وسيطا مقبولا وموثوقا.
هل راوده الأمل فعلا في أن ما عجزت عنه أقوى دولة عسكرية واقتصادية ذات نفوذ واسع، يمكن أن تقدر عليه دولة رصيدها في الدخول على خط مفاوضات معقدة، أنها تؤمن بأن لا مستقبل للمنطقة في غير تكريس الأمن والسلام العادلين؟ الأكيد أنه لم يكن يرغب في ترحيل أشواط المفاوضات إلى عاصمة أخرى غير واشنطن، لكن ثقة ياسر عرفات وفئات واسعة من الفلسطينيين في مبادرة تصدر من الرباط، يكون لها وقع إيجابي. على أن الرباط بالذات كانت ترى في حينه أنه إذا كان من كيان يتعين أن يقدم تنازلات لفائدة العيش في سلام، فهو إسرائيل وليس الفلسطينيين الذين يتوقون لأن تكون لهم دولتهم وجواز سفرهم المعترف به دوليا. إضافة إلى ترسيخ الشعور بالأمن ضمن حدود واضحة المعالم.
لم يعترض الوزير الفيلالي ولم يبد حماسا أكبر، فقد سبق للرجل أن أبدى تحفظاته حيال ما كان يعتبره جولات «علاقات عامة» يلجأ إليها الإسرائيليون، متى اشتد عليهم الخناق للإيحاء بأشكال من التطبيع مع عواصم عربية. كان يعرف أن كثيرا من اليأس، إزاء متاهات البحث عن السلام الذي لا يأتي، تمكن من نفوس قادة عرب معتدلين، جربوا مفهوم الخطوة – خطوة، نحو القفز إلى الأمام، من دون جدوى.
ومنذ أن اختار الحسن الثاني تقديم استقالته من رئاسة إحدى القمم العربية، على خلفية الإحباط الذي نتج عن مفاوضات إيفران بينه ورئيس الوزراء الإسرائيلي شيمون بيريز، هيمنت حالة اليأس إزاء تلمس الضوء الذي كان يراه المتفائلون بمستقبل سلام الشرق الأوسط في نهاية النفق. لكن مساعيه التي بدأت مبكرا، قبل اندلاع التوتر في غرب شمال إفريقيا، تجنبت الربط بين الملفات والقضايا التي لا رابط بينها.
وعندما قال العاهل الراحل إنه لا توجد أراض مغربية تحتلها إسرائيل، كان يعني بذلك أن جهود بلاده إنما تدعم الصف العربي لإنهاء الاحتلال، إن حربا أو سلما، فقد كان يعتبر المغرب دولة مواجهة، وليس مثل أبطال القوات المسلحة الملكية من سقوا بدمائهم وأرواح شهدائهم هضبة الجولان السورية في حرب أكتوبر للعام 1973. لكن الحروب تتخذ منحيات يكون البحث عن السلام واحدا من أدواتها المشروعة، مثل الدفاع عن النفس وصون الحدود والكرامة.
أبرق وزير الخارجية إلى الرباط عبر قنوات مشفرة، لنقل ما سمعه من الرئيس الأمريكي بيل كلينتون. وأضاف إلى تلك التمنيات ما يفيد بأن توقف مسؤولين إسرائيليين في الرباط، لا يعدو أن يكون محطة. إن أثمرت مواقف إيجابية فذاك ما يأمله الفلسطينيون والمجتمع الدولي بأسره، وإن اعتراها الفشل، فلن يكون الأمر جديدا ضمن سياق امتزاج الرأي الذي لا يفوت أي فرصة متاحة.
قبل أن يحل الوفد الإسرائيلي بالرباط، جرت اتصالات هادئة ومشجعة مع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، الذي أبدى مزيدا من الاستحسان والثقة بأي موقف أو منهجية يقترحها المغرب، إدراكا منه أنها تصب لفائدة عدالة القضية الفلسطينية والعربية. وشارك الرئيس كلينتون في بعض فخره بأن الأمور يمكن أن تنحو في الاتجاه الصحيح، في حال نجحت الرباط في تبديد خلافات وجهة النظر حول صيغة سلام المرحلة المعبر عنه في اتفاق أوسلو.
في منتجع الصخيرات، وليس إيفران دارت هذه المرة مفاوضات حول مستقبل السلام، أحاطت بتفاصيل المشروع العربي الذي عرف بصيغة «الأرض مقابل السلام». ولم يمض على تلك المباحثات أكثر من 48 ساعة حتى كان عرفات يصغي بإمعان إلى ما حدث وما ينبغي أن يحدث وما لا ينبغي أن يحدث، للحفاظ على زخم مفاوضات بدت مختلفة بعض الشيء عن سابقاتها.
انتظر البيت الأبيض أنباء سارة قادمة من الرباط، وتطلع العالم إلى رغبات مفعمة بالأمل في أن يصار إلى طي صفحة الماضي الأليم الذي راكم كل الإخفاقات حيال تسوية عادلة ونهائية لأزمة الشرق الأوسط.
فقد رغب المغاربة في أن ينسوا التوتر الذي كان أحدثه إسحاق رابين خلال مشاركته في قمة سلام الشرق الأوسط وإفريقيا التي احتضنتها الدار البيضاء. لم يكن لائقا النزوع إلى التصعيد، لاسيما في التعاطي وملف القدس الشريف تحديدا.
ومع أن القضية سترحل إلى المرحلة النهائية في المفاوضات العالقة، فإن إسرائيل حرصت على إبداء كل أشكال التعنت. وعندما رحل إسحاق رابين، اتجه بنيامين نتانياهو إلى معاودة ربط الاتصال بالرباط، لكن الجواب كان سبقه، ومفاده أن السياحة في المغرب محظورة على كبار المسؤولين الإسرائيليين.