شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفنن- النسوة

سوق النسا

«سوق النسا سوق مطيار، يا الداخل رد بالك. يوريوك من الربح قنطار ويديولك راس مالك».. هكذا تجلت صورة المرأة في رباعيات المتصوف المغربي عبد الرحمن المجدوب، الذي اشتهر بحكمته وزهده وسلاطة لسانه. صحيح أن هذا النوع من التراث الشفهي لا يخلو من تمييز ضد النساء، لكنه يظل حاملا بين سطور أمثلته وتفاصيل حكاياته بعضا من الحقيقة. إذ نلاحظ أن اختلاف الأزمنة وتطور وسائل التواصل بين البشر لم يحدثا تغييرا يذكر في أدبيات سوق النسا، الذي يرفع شعار «المعاطية» عنوانا عريضا له في كل زمان ومكان.

مقالات ذات صلة

لقد طورت نساء عصر «الميتافيرس» خاصيات «المعاطية»، وتم تحديث تقنياتها التقليدية من العراك بالسطولا في الحمامات العمومية، والاشتباك بالأيدي في الأسواق الأسبوعية أو تبادل الشتائم البذيئة من فوق أسطح المنازل الشعبية، إلى فضاء رقمي متطور، يسمح للجماهير العريضة بالولوج السريع إلى «المضاربة»، ويعمل على تقريب المعاطية من المواطن. لقد ساهمت «السوشال ميديا» في دمقرطة سوق النسا وتحويله إلى سوق وطنية ودولية حرة، تخضع فيها السلع «الروتينية» إلى قانون التفاهة والابتذال مقابل زر الإعجاب ونسب المشاهدة.

لم يخطئ تشيرشل حين وصف ساخرا الديمقراطية بكونها أسوأ نظام للحكم. فلربما كانت للرجل نظرة استشرافية لمستقبل أورويلي، قد نحتاج فيه إلى الاستنجاد بقوانين الأخ الأكبر القمعية الصارمة، كوسيلة أخيرة لوضع حد لحمى «الأدسنس»، ونحن نعيش اليوم واقعا محبطا تطاردنا فيه أخبار الموت وشظايا الدمار، ونصارع من أجل النجاة في عالم أصبح يستنزف طاقتنا في المكاتب الباردة، والقطارات المتأخرة والشوارع المكتظة. نجد أنفسنا في حاجة ملحة إلى التفاهة. تفاهة بطعم العدم الذي ينسينا بؤس الحقيقة. لا تقتصر صناعة التفاهة على «اليوتيوب» مثلا، إذ تخصص منظمات دولية كبرى رؤوس أموال ضخمة لتصنيع وترويج التفاهة والابتذال. نذكر منها، على سبيل المثال لا الضحك، تصريحات باراك أوباما الأخيرة حول أزمة الشرق الأوسط.

التحقت بلادنا منذ سنوات بقاطرة إنتاج التفاهة الرقمية عبر تصدر نماذج لا بشرية من فصيلة الفقمة وفرس النهر للمشهد الإلكتروني المغربي. لقد أصبح تصفح السوشال ميديا أشبه بالتجول في «الباطوار»، حيث تزكم أنوفنا روائح الجيف النتنة وتلوث سمعنا أصوات الحمير والخنازير وبكَر علال. لم تقتصر صناعة التفاهة في الويب المغربي على سيرك المؤخرات المترهلة، وحموضة المقالب الغبية أو المتاجرة بالقاصرين وذوي الاحتياجات الخاصة، بل تخطت «الكَرنة» ذلك إلى الترويج لمحتويات العنف والاعتداء الجنسي والجسدي وخرق القانون. وهو ما حدث بين قطيع سمين من البهائم اليوتوبية، التي لم تكتف بارتكاب جرائم جنائية خطيرة، بل خرجت البهيمة المقدسة ترغد وتزبد في تحد سافر للسلطات، ومحاولة يائسة لاستجداء عطف ومساندة المشاهد. هذا الأخير يساهم بشكل أو بآخر في الترويج للمعاطية. غير أن المتفرج، الذي يحرص لسنوات على دعم الزريبة بالإعجاب ورفع نسب المشاهدة، سرعان ما يتنكر لهؤلاء الجرذان ويجعلهم محط سخرية، بل قد يسرع من عملية «التغراق» في المحاكم والسجون. لقد أصبحت الدعوة إلى تطبيق رقابة أخلاقية صارمة على المحتويات الرقمية ضرورة ملحة، بل إن المواطن السوي «شحف» وهو يناشد المؤسسات السيادية في الدولة التدخل العاجل لوضع حد لهذه المهازل التي تسيء إلى صورة المغرب عموما، والمرأة المغربية على وجه الخصوص. نتساءل بحرقة عن سر الصمت المريب حول هذه التجاوزات المقلقة التي تصل إلى حد ارتكاب جرائم وجنح من طرف جياع «الأدسنس» ومتسولي «التراند». يحز في أنفسنا كثيرا أنه «تلات بينا ليام» وأصبحنا ندعو إلى تشريع قوانين تحد من حرية التعبير الرقمية من أجل حماية ما تبقى من سمعة المغاربة. ولكن هل يجوز الحديث عن قيم الحرية ومبادئ احترام الرأي الآخر في مستنقع الويب الروتيني؟

من الملاحظ، أخيرا، أن مشعل المعاطية تم تسليمه من طرف الكائنات اليوتوبية السفلى إلى كائنات أكثر تطورا على سلم الانتقاء الطبيعي للويب المغربي. حيث تروج حاليا مسرحيات بهلوانية رديئة، لكومبارس فاشلين يطمحون للعب دور البطولة عبر تبادل الاتهامات الفارغة، وإطلاق النيران الصديقة وادعاء المثالية والولاء والإخلاص للوطن. ونحن نحضر هذه المقاطع الهزلية التافهة، لا نملك إلا أن نتساءل عن جدوى هذا التضخيم الإعلامي لمواضيع ثانوية لا تخص المعيش اليومي للمواطن المغربي في شيء؟ فهل تمت مشرقة الإعلام في بلادنا؟ هل ما نشهده اليوم سيكون بداية لاكتساح مدرسة «الاتجاه المعاكس» للصحافة المغربية التي ظلت، إلى عهد قريب، صحافة وطنية هادئة بعيدة عن المعاطية؟ وهل يجوز في حالة الاشتباكات الفكرية والثقافية المسلحة الدائرة رحاها الآن في ساحة حرب «بديلة»، أن يطالب المواطن بتدخل السلطات لوضع حد لتطاير شظايا «السلوكَية»؟ أم أن مقص الرقيب يستثني نجوم مكاتب الاتصال ويستحل رقاب نجوم مواقع التواصل؟

تختلف أساليب المعاطية وتتباين المستويات الاجتماعية لأبطالها، لكن يظل هدفها واحدا، وهو صناعة التفاهة لتخدير العقل الجمعي وإلهاء الرأي العام عن القضايا المصيرية. نخشى أن ننساق وراء مضاربات مي نعيمة ومي سليمة ومي شامة، في الوقت الذي يمر فيه قانون المالية، مثلا، حسي مسي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى