سور هادريان الجديد
خالص جلبي
بنى الإمبراطور الروماني «هادريان» عام 122م سورا في بريطانيا، لصد البرابرة بزعمه. كما بنى الصينيون قبله السور العظيم، بطول 6500 كلم في وجه التتر. وبلغ من جبروته أنه الشيء الوحيد الذي يراه ملاحو القمرات الفضائية بالعين المجردة، كخط ممتد على ظهر الأرض. وأراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية حماية نظامهم بجدار برلين. كما قطعت جزيرة قبرص بين الأتراك واليونانيين بخطوط حمراء، فوق جزيرة عاش فيها الناس سوية منذ عشرة آلاف سنة. مثل الطفل الذي تنازعته المرأتان فلم تستفيدا من حكمة النبي سليمان، فقد صاحت الأم الفعلية حين أراد سليمان قص الولد قطعتين، لكل أم نصف، صاحت: هو لها لا تقصوه، فحكم لها!
وحاول الجنرال «غراسياني» أن يرضي زعيمه الفاشي موسوليني، فوضع الشعب الليبي كله في معسكرات اعتقال، وكرر ما فعله جده الروماني «هادريان» من جديد على صورة أسلاك شائكة وألغام بين مصر وليبيا. وحاولت إسرائيل اليوم تكرار الخطأ التاريخي، وبناء جدار بين اليهود والفلسطينيين من أسلاك شائكة مكهربة محروسة بالرشاشات والأنوار الكاشفة، والكلاب الحارسة، وفرقة عسكرية بميزانية دولة. والتاريخ يخبرنا أن جدار هادريان لم يبق منه سوى ذكره في الكتب، ومات صاحبه أشنع ميتة وهو يطلب الموت وما هو ببالغه، فمات مريضا مدنفا في أشد الألم، بعد أن فقد عقله، وبقي السور العظيم تحفة للسائحين. ولم يغن عنهم شيئا مع ضخامة التكاليف ودفن البشر بعظامهم بين أساساته، فقد اخترقه المغول في النهاية مثل يأجوج ومأجوج، فهم من كل حدب ينسلون. وسقط جدار برلين عام 1989م ويحتفظ الألمان بقطع من حجارة السور في بيوتهم، كتحف أثرية لتاريخ أسود آية للمتوسمين. وتحرر الشعب الليبي من قبضة الفاشية ومات غراسياني ملعونا، وأعدم موسوليني وعلق من عقبيه مثل الخروف في المسلخ البلدي بدون كرامة. وهو المصير نفسه الذي ينتظر سور إسرائيل الجديد، كما كانت نهاية السفاح شارون، إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين. ومشكلة السور الجديد في إسرائيل، أنه مثل كل قصص العزل والعنصرية، وسوف ينقلب عليهم ويحول إسرائيل إلى جيتو يهودي كبير من حيث لا يعلمون. يخربون بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار. صحيح أن هذا السور سيمثل عملية جراحية كبرى مثل فصل التوائم السيامية، ولكن هذا النوع من الجراحة ليس ممكنا كل مرة، ولا ينجو من مضاعفات قاتلة أحيانا. والأخوان السياميان الأولان اللذان نقلا هذا المصطلح إلى عالم الطب كانا متصلين بالبطن، ونعرف اليوم أن فصلهما جراحيا كان ممكنا وسهلا، واُقترح عليهما فعله، ولكنهما آثرا الاتصال والإبقاء على حبل المودة العضوي قائما، فقد نشأت بينهما بطول الصحبة علاقة روحية متميزة تأبى الانفصال. وهكذا عاشا اثنين في وحدة، وتزوجا وأنجبا من أختين. ولكن ليس كل عملية فصل سيامية ناجحة، خاصة إذا كانت رأسين برأس وصدرين بقلب. وما بين إسرائيل وفلسطين اتصال سيامي يحتاج إلى خبراء اجتماع وتاريخ، أكثر من جراحة طب الأطفال. وعمليات الفصل السيامية لها مراكزها المتخصصة وأطباؤها البارعون، وكذلك نتائجها المدمرة أحيانا. وما فكر فيه شارون يوما والمؤسسة العسكرية هو القيام بهذه الجراحة الاجتماعية الخطيرة بدون تخصص، مثل قصاب يمارس الجراحة، وليس كل من أمسك بالسكين أصبح جراحا.
نحن نعلم أن جدار برلين تم اختراقه من فوق الغيوم بطيارات بدون محرك، وبأنفاق تحت الأرض تعجز عنها الأرانب والخلد، وعبر الحدود بوسائل تفتق عنها الخيال بما يعجز عنها إبليس، تحكي قصة الإنسان عندما يريد الخلاص أو الاقتحام. وهو ما يحيل الجدار إلى كومة تراب، والأسلاك المكهربة إلى خيوط العنكبوت. وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون. ثم ماذا تفعل إسرائيل بأكثر من مليون عربي في أحشائها، بعد أن أصبحوا خلايا منها؟ هل هناك ضمانة أو حصانة من انقلاب هذه الخلايا السليمة إلى خلايا سرطانية تدمر إسرائيل، بعد أن علت علوا كبيرا فيتبروا ما علوا تتبيرا. والسؤال الكبير كما طرحه مسؤولون في الحكومة الإسرائيلية، أين ستمر الأسلاك الشائكة تحديدا؟ هل سترجع إلى حدود 4 يونيو 1967م فتكون إسرائيل بذلك قد حكمت على نهاية المشروع الصهيوني بجرة قلم، أم أنها ستحول مناطق الفلسطينيين إلى محميات هنود حمر لشعب أظهر قدرة فائقة على امتصاص الصدمات، أم أنها أحلام تمضي إلى اقتطاع نصف الجسد الفلسطيني المتبقي لتحكم خلف الأسلاك حكومة فلسطينية بالريموت كونترول، بحيث تأخذ الحدود منظر خط متعرج أشبه بلوحة سريالية؟ كل هذا ممكن أن يحصل وأكثر منه ببتر قسم من الجسم العربي. ولكن إسرائيل تفعل ما فعله الجرذ، الذي استأجر لنفسه مصيدة، وتنسى أنها سفينة مسلحة في محيط غادر، وأن أمواج المحيط في النهاية يمكن أن تغرق أعظم السفن. وأن حملة قوبلاي خان بـ4400 سفينة على اليابان جرها التايفون إلى قعر البحر، وغاضت إمبراطورية المغول بعد بأس وصولة. فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون.
نافذة:
جدار برلين تم اختراقه من فوق الغيوم بطيارات بدون محرك وبأنفاق تحت الأرض تعجز عنها الأرانب والخلد وعبر الحدود بوسائل تفتق عنها الخيال