شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

سنة كبيسة

 

 

 

تفصلنا أيام قليلة عن بداية عام جديد، سنستقبل فيه سنة كبيسة، يطول خلالها عمر شهر عيد الحب بيوم واحد، غير أن التقويم الغريغوري الآن قد يشهد إضافة المزيد من السنوات الكبيسة. سنوات عجاف سنتعرف فيها على تكبيس من نوع آخر. انتشرت في الفترة الأخيرة ظاهرة «البثوث» المباشرة على تطبيق «تيكتوك»، حيث تقوم شرذمة من المبعثرين والمبعثرات بأفعال وحركات بهلوانية مثيرة للاشمئزاز بغرض تلقي مبالغ مالية مهمة من طرف المتابعين. أموال ترسل على المباشر على شكل رموز مختلفة، أهمها رمز الأسد. فإذا تحصل صاحب البث على هدية الأسد، يكون بذلك قد تحصل على مبلغ يفوق الخمسة آلاف درهم. تذكرنا هذه «البثوث» بما كان يحدث في روما القديمة، حيث يتم جلب العبيد إلى ساحة «الكولوسيوم»، وإجبارهم على مصارعة الأسود والحيوانات الضارية بغرض الترفيه عن القيصر والجماهير المتعطشة للإثارة والتشويق. يصارع العبد الأسد تحت هتافات وتصفيقات الجمهور، فإذا تغلب العبد على ملك الغاب، كتب له عمر جديد وتم تحرير رقبته من نير العبودية. يقال إن الإمبراطورية الرومانية العظيمة، أثناء لحظات انهيارها، كانت تحرص على تنظيم هذا النوع من «التورنوات» لإلهاء الشعب عن انهيار الدولة وتفتتها. صحيح أن التاريخ قد يعيد نفسه كمهزلة، ولكن لم نكن نتوقع أبدا أن التاريخ سيعيد نفسه كـ«لايف». «هادي فلتات لماركس». لقد جاءت مواقع التواصل الاجتماعية في العقد الأخير كالمسيح المخلص الذي أعتق رقابنا من مقص الرقيب وحررنا من جمود التلفزيون الرسمي للأنظمة الحاكمة. كانت «السوشال ميديا»، إلى وقت قريب، أداة للتعبير الحر عن معاناة الشعوب وصوتا جبارا ساهم في إيصال صدى ميادين التحرير إلى باقي أرجاء العالم. غير أن «الحلو مايكملش». تغير، فجأة، الهدف النبيل لمفهوم البث المباشر، الذي وثق لنا، قبل اثني عشر عاما، كيف أعدم رجال مبارك المتظاهرين في شوارع الإسكندرية. إلى هدف رخيص يوثق كيف يتنكر الإنسان لآدميته وكرامته وعزة نفسه من أجل المال. لقد أرغمنا مجانين «اللايف» وعبيد روما الحديثة على مراجعة مبدأ حرية التعبير المطلقة، كقيمة إنسانية مثلى. إذ يحز في أنفسنا كثيرا أن نطالب الدولة بالتدخل وسن قوانين تنظم هذا العبث. لا تقتصر خطورة ظاهرة كبسوا ولا تحبسوا على الإساءة إلى صورة المغاربة فقط. بل يتجاوز الأمر ذلك إلى تفاصيل قد تغيب عن العامة. إذ تعتبر هذه «البثوث» المباشرة وسيلة لتلقي مبالغ مالية طائلة من مصادر مجهولة. قد تكون بغرض تبييض الأموال، أو بغرض تمويل جهات معادية للدولة، الأمر الذي يشكل تهديدا مباشرا لأمن وسلامة البلاد والعباد. نتساءل، أمام هذا التسيب الخطير، عن دور الرقابة الحكومية ومبدأ العدالة الضريبية بين المواطنين. ألا ينص القانون على ضرورة تحصيل الضرائب من كافة المواطنين والمواطنات كل على حسب وضعيته المادية؟ إذن كيف لموظف أو تاجر أو فلاح أن يدفع «دم جوفه» للضرائب. في الوقت الذي تتحصل مراهقة على ملايين السنتيمات الخالية من الضرائب، بعد وصلة رقص على المباشر؟ أين العدل في منع المغاربة من القيام بعمليات الشراء عبر المواقع الأجنبية وإجبارهم على دفع مبالغ خيالية للديوانة، تحت ذريعة حماية الاقتصاد الوطني، في وقت يجني آلاف الحمقى أموالا من مصادر مريبة دون حسيب أو رقيب أو درهم واحد يدفع للضرائب؟ من الملاحظ أن ذلك النوع من «البثوث» المباشرة غالبا ما تكون بطلاته من المراهقات أو الأطفال القاصرين، حيث يتم استغلال هؤلاء من طرف ذويهم والمتاجرة بأمراضهم النفسية والعقلية والجسدية من أجل استدرار عطف المتابعين وتحصيل أسودهم. إن تعريض الأطفال لهذا النوع من الاستعباد والاستغلال الفاضح هو انتهاك صريح لحرمة الطفل، انتهاك يستوجب المساءلة القانونية الصارمة. كيف سنبرر، مستقبلا، لعشرات الآلاف من المغاربة مقاطع فيديو وثقت أسوأ لحظات طفولتهم وتاجرت بضعفهم وفقرهم وصورتهم في أوضاع مخلة بالإنسانية؟ كيف سيتعايش هؤلاء مع الشعور بالذل والعار مما اقترفته أيدي ذويهم؟ كيف سيغفر المغربي، في المستقبل، لقانون بلاده الذي تغاضى عن بيعه في مزاد «اللايف» العلني؟ أين دور جمعيات حقوق الطفل من المهزلة المشينة التي تحدث الآن؟ إلى متى سنقف مكتوفي الأيدي ونحن نشاهد عهدا جديدا من الاتجار الإلكتروني بالبشر؟ صحيح أن حرية التعبير تظل قيمة أخلاقية مقدسة، لكن حرية التعبير تحترم إذا أردت الحديث عن مواقفك السياسية أو الفكرية. لا أن تتاجر بحرمة طفلك من ذوي الاحتياجات الخاصة أمام جحافل من المشاهدين المشكوك في نواياهم. كيف يستقيم في قلب وعقل هؤلاء الآباء والأمهات عرض فلذات أكبادهم على المباشر، وهم على علم تام بحقيقة تواجد «الويب» المظلم الذي يعج بالمرضى النفسيين و«البيدوفيليين» والمجرمين؟ هل المال سبب كاف ليبيع المرء شرفه الأخلاقي؟ يظل هذا السؤال طوباويا تصعب الإجابة عنه، ولكن هل يحق لنا محاسبة العبيد على مصارعة الأسود بغرض النفاذ بجلدهم من سوط الفقر والحاجة؟ هل تجوز لنا المساءلة الأخلاقية لمجانين «اللايف»، في ظل أوضاع اقتصادية مزرية؟ هل أنت مستعد لمقايضة إنسانيتك بثلاثين مليون سنتيم؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى