شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

زيارة تاريخية

 

 

خالد فتحي

 

ما يحيط بقدوم الرئيس الفرنسي ماكرون إلى المغرب، من حفاوة وألق ووهج، يشي بأن ما سيقوم به صديق المغرب «العائد»، على مدى ثلاثة أيام، هو أكبر من زيارة دولة… هي قبل كل شيء زيارة يمتثل فيها رئيسا البلدين لرغبة عارمة دفينة لدى الفرنسيين والمغاربة. إذ ينتظرون منهما معا أن يجعلا منها زيارة تاريخية بامتياز، بل وفارقة في تطور العلاقات بين الرباط وباريس، تفصل بين عهد الضبابية وعهد الوضوح، وبين ازدواجية الموقف وشجاعته، كونها أتت بعد جفاء وعقب أزمة حادة لعبت حكمة وتصميم ودبلوماسية ملكنا الدور الأكبر في حلحلتها، حتى تسنى تبديد سوء الفهم وإزالة الغيوم والتوترات بين الإليزيه والقصر العامر الرباط. وبالتالي هي تعبر عن تبلور هادئ لقناعة راسخة ونهائية بأن التنافر ليس مما يليق بعمق وتجذر الشراكة الفرنسية المغربية، وأن التعاون الوثيق والمستدام هو القدر الوحيد الممكن بين الشعبين المغربي والفرنسي. فشئنا أم أبينا، توجد أواصر عديدة تجمع بين البلدين: تلاقح وتثاقف منذ فترة الحماية وبعدها لازال تأثيرهما ساريا إلى الآن بين الأمتين… جالية مغربية كبيرة بفرنسا، ساهم آباؤها في تحرير فرنسا من النازية، وتساهم أجيالها الثانية والثالثة والرابعة من مزدوجي الجنسية، حاليا في تشييد تقدم فرنسا وبناء عظمتها التي نعرف جميعا… شركات واستثمارات فرنسية ضخمة بالمغرب، وفرنسية تعتمد للتدريس في كبريات المعاهد والكليات المغربية. وطلاب مغاربة يتصدرون جنسيات الطلاب الأجانب بالجامعات الفرنسية، وسياحة في الاتجاهين، وتعاون فعال في شتى المجالات والمسارات بدءا من التسلح والدفاع وانتهاء بالفلاحة والطاقات المتجددة والطرق والسكك والتعليم… انسجام تجاري واقتصادي وثقافي يجعل كل خلاف سياسي يبقى في الحقيقة رهن البنية الفوقية لا غير… حتى أنه ليمكن لنا أن ندفع أن هناك جاذبية خاصة بين البلدين لدرجة يمكن القول معها إن الفرنسيين لا يغتربون بالمغرب وأن المغاربة بدورهم لا يغتربون بفرنسا. كل المقدمات والإشارات التي سبقت زيارة الدولة هاته تدل على أن شمسا جديدة ستسطع في سماء العلاقات المغربية الفرنسية.

ففرنسا حسمت أمرها، وأنهت أمام أنظار العالم وعلى رؤوس الأشهاد ترددها وجهرت به، والمغرب، الذي طالما تفهم سابقا على مضض تلكؤها في الاصطفاف إلى جانب طرحه الموضوعي، يقدر لها شجاعة تأييدها لمقترح الحكم الذاتي، واعتبارها الذي لا مراء فيه بأن حاضر الصحراء المغربية ومستقبلها لا يمكن أن يندرج إلا ضمن السيادة المغربية .

رسالة 30 يوليوز للرئيس ماكرون إلى جلالة الملك حملت كلمة السر التي تجعل المغاربة يثقون في صداقة الآخر. حين أكدت أن الحكم الذاتي هو الأساس الوحيد لحل عادل ومستدام لقضية الصحراء المغربية. هذه الجملة المفتاحية هي التي عبدت طريق ماكرون إلى الرباط التي تستقبله بكل الترحيب والحفاوة. إنها الزيارة التي سوف تثبت للعالم، أو لما تبقى من العالم، أن الطريق إلى الطريق يمر لزوما عبر العيون والداخلة والكويرة.

في مجال العلاقات الدولية لا شيء يمنح جزافا، إذ كل شيء يستحق. فرنسا تعرف أنه يمكنها أن تعتمد على المغرب كبلد ارتكاز من أجل علاقات اقتصادية مجدية لها في غرب القارة الأفريقية ودول الساحل، خصوصا بعد الوهن الذي أصابها في هذه المنطقة مقابل تعاظم النفوذ المغربي فيها .

لا يخفى على باريس أيضا أن المغرب هو البلد الوحيد المستقر في شمال أفريقيا وعلى الضفة الجنوبية لبحر المتوسط، وأنه أصبح قوة إقليمية يشار لها بالبنان بعد المبادرة الأطلسية، ودعوته إلى تمكين دول الساحل من منفذ على الأطلسي، ومشروع أنبوب الغاز النيجيري المغربي الذي سيشكل شريان حياة إلى أوروبا. بهذا المعنى لا تبقى زيارة ماكرون حدثا ثنائيا يهم فرنسا والمغرب فقط، بل تعود حدثا إقليميا ودوليا يدل على التحولات الجيواستراتيجية المتسارعة وعلى التوازنات المقبلة والترتيبات الكامنة التي يقتعد فيها المغرب بفضل بصيرته الدبلوماسية مكانة مركزية. ولذلك ينظر نظام العسكر بالجارة الشرقية إلى هذه الزيارة بكثير من الحرقة والغيظ والحنق التي تزيد من فضحه وعزله في المشهد الدولي. ترى هل كان ينتظر في زمن يعاد فيه تشكيل العالم أن تراهن الإمبراطوريات العريقة على غير مثيلاتها من الإمبراطوريات المنغرسة في عمق التاريخ؟ هل سيفهم، إن غادرت فرنسا مثل أمريكا وإسبانيا وألمانيا المنطقة الرمادية، أنه قد انزاحت عن عينيها الغشاوة، وقررت أن تعالج خصوم وحدتنا الترابية بالصدمة بأن تنتصر للحق وللمشروعية؟

سيلقي الرئيس الفرنسي غدا خطابا بالبرلمان المغربي بغرفتيه، وهو يعرف أنه لن يخطب ود المغاربة الا بتأييد حقهم في صحرائهم التي بذلوا من أجلها الأرواح والمهج وضحوا بالغالي والنفيس. ففرنسا تعرف في قرارة نفسها أن الموقف المغربي صلب ووجيه، وأن حقوقنا الشرعية والتاريخية في صحرائنا المغربية لا غبار عليها.

سيتطرق الرئيس إلى هذه القضية الوجودية بدون شك، وسيبرز معالم الميثاق الجديد الذي سيجمع الأمتين الفرنسية والمغربية، والذي قوامه الشفافية والصدق والاحترام المتبادل، والشراكة المنتجة، واعتماد مبدأ المكسب للجميع، والتنسيق على الساحة الأفريقية والأوربية والدولية .

في ظل هذه المبادئ، سيمكن للرئيس الفرنسي أن يعتبر المغرب بلدا حليفا وفيا للصداقة الفرنسية، ويمكن لنا أن نعتبر معه أن الأزمة الفرنسية المغربية دخلت خزانة التاريخ، وأنها صارت وراء ظهورنا، وأن المستقبل واعد، فبقدر ما تكون الملامة والعتاب، بقدر ما يكون الود حقيقيا وصادقا بعدهما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى