زعماء في واجهة العمل الدبلوماسي
تأمل المحجوبي أحرضان، زعيم الحركة الشعبية، خريطة الدول التي كان بصدد زيارتها، فوجد أن الكثير منها لم تطأه قدماه من قبل، وتذكر أنه يحتفظ بصداقات قديمة مع رجال أصبحوا يتحملون مسؤوليات رفيعة في مراكز القرار في بلدانهم.
تردد أنه سأل عن اللغات الرسمية واللهجات الشعبية التي تتحدث بها دول مثل أوغندا وزامبيا وكينيا ونيجيريا، ثم أيقن الرجل أنه لابد أن يكون هناك أمازيغ يشاركونه مرجعياته في الموروث الثقافي الشعبي. فهو في النهاية يرسم حين يتعذر عليه الكلام، وقد كان الرسم سابقا عن كل اللغات واللهجات. ضحك المحجوبي أحرضان، وهو يصر على أن يذهب إلى عواصم دول إفريقية عديدة، متمنطقا بخنجره. حتى إذا سئل عن سر ذلك أجاب: «كلنا نعيش في غابة والسلاح يخيف وحيشها على أية حال».
هكذا سمعت الرواية، ولم أكن أعرف عن «الزايغ» إلا النزر القليل، قبل أن أقارب عالمه المتميز الذي تختلط فيه اللغة بالإشارة والانفعال والبساطة كذلك. لكن الرجل سيعود من تلك الزيارة التي قادته إلى عواصم إفريقية في منتصف سبعينيات القرن الماضي، أكثر قناعة بضرورة معاودة جسر العلاقات السياسية والروحية والثقافية مع بلدان إفريقيا السوداء.
سيكون حظ الكاتب الأديب محمد العربي الخطابي، العائد وقتها من منظمة العمل الدولية في جنيف، أقل صعوبة، لأن زيارته ستشمل دولا إفريقية تنطق بالإسبانية وأخرى بالفرنسية، مثل السنغال ومالي والنيجر. ومع أنه لم يكن ينتمي إلى حزب سياسي معين، فقد جرى اختياره للقيام بمهمة زيارة هذه الدول، لأنه كان مقنعا في حديثه يتوفر على رصيد معرفي هائل. ومن غير المثقفين في إمكانهم إقناع زعماء دول بعدالة ملف شائك انفجر فجأة، بما لم يترك مجالا للتحضير لأجواء الحوار.
على منوال هذا التوجه، سيتلقى زعيم التقدم والاشتراكية علي يعتة إشعارا بضرورة التحرك في اتجاه أصدقائه الشيوعيين في بلدان المعسكر الشرقي، مثل رومانيا ويوغوسلافيا وبولونيا وتشيكوسلوفاكيا. ولماذا لا تشمل الزيارة اليمن الجنوبي الذي كان يرفع الرايات الحمراء قبل انضمامه إلى اليمن الشمالي في وقت لاحق.
لم يكن انقضى على الاعتراف الرسمي بحزبه القديم – الجديد غير فترة قصيرة، لكنه بدا أكثر حماسا ويقينا. وتحمل مسؤوليات حيال إقناع أصدقائه بأن وجود حزبه في المعارضة شيء، والانضمام إلى حركية الإجماع الوطني في الدفاع عن قضية الصحراء شيء آخر.
وعندما سئل علي يعتة من طرف رفاقه الشيوعيين عن الطابع الإيديولوجي لملف الصراع الذي كان في بداية اندلاعه، أجاب بأن الوطنية تأتي قبل الانتماء المذهبي. ثم فاجأ الملك الراحل الحسن الثاني حلفاء بلاده الغربيين عندما وصفهم بأنهم يشتغلون كأعضاء في ناد سياسي وليس كحلفاء ملتزمين. وترتب على زيارة علي يعتة لبلدان المنظومة السوفياتية السابقة، أن الرباط أبرمت لاحقا ما عرف باتفاقية القرن مع موسكو، والتي أفضت إلى تسويق الفوسفاط ليصبح الاتحاد السوفياتي أهم شريك تجاري للمغرب في هذا المجال.
وكانت المعارضات أن الجزائر، التي لم تكن تخفي دورانها في فلك المعسكر الشرقي، أبرمت بدورها المزيد من اتفاقيات التعاون الاقتصادي والتجاري مع الولايات المتحدة الأمريكية، ما دفع إلى التساؤل عن اختراق السياسة والاقتصاد إلى حد التباين والتضاد. لكن الغرب والمشرق معا كانا معنيين فقط بضمان المصالح، أما المبادئ فتلك أوراق ينثرها الجميع على درب العلاقات العامة.
اللافت في غضون هذه الزيارات وغيرها أن الزعامات الحزبية التي تفرقت على بلدان العالم وقاراته، بدت وكأنها تعرض إلى مناطق نفوذها وصداقاتها وتأثيرها وتأثرها. وكان نصيب الزعيم الاشتراكي عبد الرحيم بوعبيد أنه اتجه إلى فرنسا والصين وأندونيسيا وماليزيا، يحاور مراكز القرار والأحزاب الاشتراكية. بينما توجه زعيم حزب الاستقلال محمد بوستة إلى مصر والسودان والعربية السعودية ودولة الإمارات والبحرين وقطر. وبين هذه المجموعة أو تلك جاب الوزير الأول أحمد عصمان عواصم أمريكية وغربية، كما سافر الدكتور عبد الكريم الخطيب إلى لبنان وسوريا والأردن والعراق.
الاستثناء الوحيد وقتها تمثل في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي كان لزعيمه الراحل عبد الله إبراهيم موقف مغاير يقضي بتثبيت أركان الجبهة الوطنية، لكنه أصدر بيانات داعمة لعدالة القضية الوطنية. وكان أوفد القيادي المعطي بوعبيد للمشاركة في المسيرة الخضراء على غرار باقي الأحزاب السياسية.
لكن أكثر المواجهات التي ستدور على ضفاف معارك القضية الوطنية في المؤتمرات الدولية في نطاق حركة عدم الانحياز مثلا، ستكون بين زعماء أحزاب المعارضة والوفود الرسمية الجزائرية، وكان يصعب على وزير الخارجية الجزائري آنذاك عبد العزيز بوتفليقة أن يقف أمام القامة الطويلة للزعيم عبد الرحيم بوعبيد. غير أن الزعيم ذاته سيخطب أمام اجتماع طارئ للبرلمان المغربي استضافته مدينة العيون، مدافعا عن الصرح العالي للوحدة الترابية، ولم يكن مضى غير وقت قليل على مغادرته معتقله في «ميسور» الذي عانى فيه محنة السجن والعزلة، جراء موقفه من فكرة استفتاء الصحراء.
فالاعتقال وأنواع المحن التي عانت منها المعارضة، يوم كانت مكلفة في الفكر والجسد، لم تثنيها عن الاصطفاف الطبيعي والمبدئي.. ولم يفهم كثيرا كيف أن المغاربة يختلفون على أشياء كثيرة، ويتوحدون حول الأفكار والمبادئ الكبرى.