رسالة ملتبسة
الأصداء التي أحدثها خطاب الرئيس السيسى أمام مؤتمر رؤية مصر (في 24/2) جعلتنى أسارع إلى الاستماع إلى نصه كاملا، وكان ذلك أول ما فعلته بعد العودة من السفر. ولست أخفي أن الخوف كان أكثر ما خرجت به من المحاولة التي كررتها مرتين لكى أستوعب ما سمعت. ذلك أنني فهمت أن الرئيس كان غاضبا بشدة وأنه وجه كلامه الذي جاء مسكونا بالتهديد إلى ناقديه في داخل مصر وليس خارجها. وهو في ذلك ذهب إلى ما هو أبعد من تنديده بما أسماه «حروب الجيل الرابع»، التي دأب إلى الإشارة إليها في معرض حديثه عن الشائعات والمعلومات المغلوطة التي يجرى الترويج لها عبر وسائل الإعلام. هذه المرة دعا الرئيس الجميع لأن يسمعوا كلامه فقط، وطالب ناقديه بالتزام الصمت. وإذ استهجن موقفهم وتساءل: من أنتم؟، فإنه نسب إليهم السعى «لتقطيع» مصر، وتحدث صراحة عن أنه لن يسمح بذلك، بل وسوف يسحق أي محاولة من ذلك القبيل، وكانت عبارته واضحة في أن من يضرب في مصر «هشيله من على الأرض».
كانت تلك هي المرة الأولى التي يتحدث فيها الرئيس السيسى بهذه اللغة، الأمر الذي يثير عديدا من الأسئلة عن الخلفيات التي دفعته إلى ذلك. هل هي التقارير الأمنية التي نقلت إليه صورة مبالغا فيها للنشطاء أزعجته؟ أم أنها قياسات الرأي العام التي تعدها الأجهزة المختصة وحذرته من تململ الشارع المصري بسبب كثرة الحديث عن الغلاء والفساد؟ أم أنها الصراعات بين مراكز القوى في السلطة؟ أم أنها الحساسية وضيق الصدر بالآراء الأخرى المتداولة في بعض وسائل الإعلام؟
خلفية الكلام ليست واضحة، ولم يستطع المحللون والعارفون ببواطن الأمور أن يوضحوا لنا لماذا لجأ الرئيس إلى تبني ذلك الأسلوب غير المألوف في خطابه، بحيث يوجه رسالته محملة بكل تلك الإشارات الملتبسة والمثيرة للغط، قبل أن يغادر البلاد في رحلته الآسيوية. إزاء ذلك تعددت أصداء الخطاب وتوزعت على اتجاهات عدة. إذ عمد البعض إلى التأويل والتخفيف من طابع الحدة فيه. فذكر هؤلاء أن الرئيس كان يقصد شيئا آخر غير الذي دل عليه ظاهر عبارات خطابه، فحين قال مثلا لا تسمعوا لأحد غيري فقد كان يقصد لا تسمعوا لدعاة الهدم والإحباط (وهو تفسير سلبي بدوره لأنه يعني أن كل من قال كلاما مغايرا لما يقوله الرئيس فإنه يعد من دعاة الهدم والإحباط). آخرون اتجهوا إلى التبرير بدعوى أن الكلام كان صادرا من القلب ومرتجلا، ولذلك فإن الرئيس أراد أن يكون صادقا فخرج منه الكلام شفافا دون تشذيب أو تجميل. فريق ثالث عبر عن صدمته وقلقه إزاء خشونة التعبيرات التي ذكر بعضهم أنها «نالت من صورة الرئيس بفداحة» وقال أحدهم إن كلام الرئيس عن أنه إذا لم تكن معنا فاسكت من فضلك يوحي بأن موجة اعتقالات جديدة قادمة في الطريق، رغم أنه تحدث عن أنه لن تكون هناك إجراءات استثنائية قادمة. هناك أيضا فريق «الشبيحة» الذين التقطوا عبارات الرئيس وحملوها بأسوأ معانيها وأقساها، إذ اعتبروا أنه أراد أن يواجه أعداء الوطن وعناصر الطابور الخامس الذين يتربصون به. وأنه بعباراته الشديدة أظهر العين الحمراء للذين ينتقدون السلبيات ويرفضون رؤية الإنجازات التي حرص الرئيس على التذكير ببعضها. أخيرا فإن شبكات التواصل الاجتماعى حفلت بمستوى آخر من الأصداء، أخذ فيه الشباب حديثهم وذهبوا في ذلك إلى أبعد مدى ممكن.
قلت في البداية إن الخطاب سرب إلي شعورا بالخوف لأنه عبر عن قدر لا يستهان به من ضيق الصدر بالنقد، وأعطى انطباعا بأن النخبة مطالبة بأن تختار بين التأييد والموالاة أو الصمت، لأن كل كلام خارج تلك الحدود سيعد في قبيل تمزيق الوطن وإسقاط الدولة، الأمر الذي سيقابل بمنتهى الشدة والحزم. هناك سبب آخر للخوف والقلق هو أن يكون الكلام موجها إلى جهات في الدولة أريد تحذيرها من أي تحرك يحاول استثمار الفراغ السياسي الراهن، وهو ما أشار إليه زميل أفهمنا أنه مطلع ويعي ما يجري وراء الكواليس. وأشار في هذا السياق إلى وجود مراكز قوة جديدة خارج الشرعية الدستورية.
ما يثير الانتباه أن هذه اللغة التي لا توحي بالثقة والاطمئنان برزت إلى الأفق بعد الإعلان عن الانتهاء من استحقاقات خارطة الطريق (انتخابات مجلس النواب)، وكان الظن أن ذلك يفتح الأبواب أمام طور آخر من الاستقرار، إلا أن أصداء الخطاب أعطت انطباعا بأننا بصدد الدخول في طور مختلف. كأن تكون الحرب ضد الإرهاب قد استنفدت أغراضها، وأننا بصدد الانتقال إلى مواجهة المعارضة التي تعد «تصفية» منظمات المجتمع المدني من مقدماتها. وهو ما أرجو أن تكذبه الأيام المقبلة.