رحى المعاناة
ناضل والداه من أجله العمر وما يزالان، باعا من أجله، القزبرة والنعناع، ومرة أخرى، الجوارب والمناديل، ومرات عدة، باعا أعضاءهما في المستشفيات، وباعا كرامتهما في الموقف قبل بزوغ الفجر لأسياد ما يزالون يؤمنون بوجود العبيد. عمل والده حمالا وبنّاءً وحارسا ليليا وأشغالا أخرى حقيرة ومهينة وإن كانت في الحلال وبعرق الجبين، وعملت أمه خادمة بيوت تنهرها حليقات الشعر وعاريات السيقان والنهود، ويساومها المكابيت المراهقون، وأحيانا كثيرة، عملت منظفة فنادق وغاسلة صحون في المطاعم والمقاهي وحمَّالة خردة أوربية مهربة.
كانا يأملان في ابنهما تحقيق حياة مرفهة بعد الخمسين عندما يشرع الظهر في التقوس، وتبدأ الكثير من الوظائف الجسدية تتعطل، لكن آمالهما تبخرت مع ريح سوء التدبير، التي تتخذ من السلطة مطية للاسترزاق والنهب وبلوغ المطامح خاصة، بعيدا عن الهدف الأسمى الذي يروم التضحية والمثابرة لخدمة الصالح العام، والتحلي بروح مواطنة خلاَّقة سمتها الشفافية والثقة.
ترعرع الطفل وفتح عينيه على بؤس والديه ومعاناتهما من أجل لقمة العيش وراحة الأبناء، ولم يكن في حاجة إلى توصية من والديه، تذكره بضرورة التحصيل العلمي وعدم الانجراف في الرواسب والمستنقعات العطنة برائحة العهر الأخلاقي ودخان الأفيون وعطن المشروبات المدوخة.
كان كل شيء واضحا، وكل الإشارات والعلامات الدالة تحذره من الانهيار والضياع وتحفزه على الاجتهاد ومجابهة عقبات الواقع المظلم، ما جعله يكد أكثر ويجتهد عكس كثير من أترابه وخِلَّانه الذين يئسوا من إهانات الأقارب التي تغرق مراكب نوح، ومن مشاهد الواقع المكهرب التي تهمش أصحاب الشهادات الجامعية وتدمغهم، ومن فشل المنظومة التعليمية برمتها التي تكرس للفساد وتشجع عليه، ومن شُؤم الحياة الكئيبة والمملة، وانشغلوا بفرصة النجاة من جحيم البقاء في هذه البلاد ونسيانها إلى المثوى الأخير.
كافح كل الأقوال المحبطة وكل المخططات التي سعت حكومة البلاد إلى دسها لاستمرارية صنع جيل من الدُّمَى أو صنع جيل من الآلات الروبوتية التي تردد السمع والطاعة، وتطأطئ رأسها إيجابا، وفاز بعد كفاح طويل بـ»كرتونة» لا تصلح حتى لدورة المياه، ولا يجرؤ أي أحد على تعليقها بمدخل المنزل ليراها كل من يلجه، تيمنا بعباس محمود العقاد الذي كان يفتخر بشهادته الابتدائية التي صنعت أسطورته، أما شهادة الجامعة اليوم فقد أصبحت وصمة عار على جدار بيت كل طالب، بالكاد تنفعه في استعطاف تلك الشركات متعددة الجنسيات والتي يشتغل بها في الخارج الجناة القاصرون والسجناء الذين تتم إعادة إدماجهم.. أما هنا فإنها تحلب نفوس ودماء ذوي الكفاءات الجامعية، لتقهر كرامتهم وتصنع منهم جيلا من وشاة وجبناء مرعوبين يفزعهم المستقبل الذي ينذر بكل ما هو سيئ.
هذا الشاب اختار الحل الدموي موشحا بأقوال ماركس وتشي غيفارا وبعض أقطاب القرون السابقة، وقرر أن يحتج على ضياع حقه واستغلاله، فاعتصم وأضرب عن الطعام عندما صدمته الآذان الصماء والعيون المعمشة. فكان نصيبه، بعد كل هذه السنوات من الكد ومعاناة الأبوين، أن يصطدم بكلاب «بيتبول» مخدرة، يضنيها الانتظار والوقوف وتنتظر اللحظة التي يعلن فيها كبيرهم الهجوم على أولاد الشعب المنكوبين والمضطهدين، فيفترسونهم بوحشية، في لقطة أشبه بهجوم الضباع في الأفلام الوثائقية، ليغادروا إلى أقفاصهم ويتلهوا بأرجل الدجاج بعد معركة جائرة غير متكافئة. أي قلوب هذه التي تفترس أبناءها، وتحارب مستقبلها؟
طَالبَ الشاب بمستقبل الوطن ومستقبل الأجيال الوافدة، بحق الحوار وبأبسط حقوقه. فأجابه رئيس الحكومة بأن عليه أن يعري عن ساعديه وأن يشغل دماغه وينشغل بالتجارة، بدل أن يظل يحتج ويثير الجلبة والفوضى، كما يفعل بعض أصحاب اللحي الطويلة، الذين انشغلوا ببيع الجوارب والسراويل الداخلية، وكتب الأذكار والمسك وعرق السوس، ومنهم من اشترى عربة وأخذ يبيع فيها عصير الزنجبيل وآخر يبيع «السندويتشات».. أما هذا الشاب فقد استفزه رئيس الحكومة وأخذ بنصيحته واتجه إلى الميدان المسعور، اشترى عربة وبكّر إلى سوق الجملة ليتزاحم مع الباعة، فأتت سيارة المخزن وصدمت عربته وشتتت فاكهته، ولما احتج على ميزانه الذي نزعوه منه قسرا، وهو يضمه مقرفصا إلى صدره كمن يحضن طفلا، ضربوه على رأسه مرة أخرى وقيدوه إلى أقرب مخفر وجمعوا السلعة في اتجاه بيت القائد وبعض الوكلاء.
أدى والداه كفالة جمعاها من تضامن الجيران وأخرجاه واشتريا له ميزانا جديدا وعربة أخرى، فدهسها القائد مرة أخرى. دعمه والداه من جديد ليذهب إلى شمال المملكة ليهرب منتوجات أجنبية حتى لا يظل عالة عليهما عاكفا أمام البيت أو بجانب عمود الكهرباء أو ينجرف إلى المخدرات والسرقة والإجرام، فوقع له مثل المرة الأولى.
لم يبقَ أمامه سوى أن يعود إلى احتجاجه والاستنجاد بكثير من الجرأة لحرق نفسه أمام القبة المشؤومة، لكن القائد أطبق عليه قبل القيام بالمحاولة، ولفق له تهما ثقيلة، تفيد تخريب منشآت الدولة، وإثارة الفوضى في البلاد، والتحريض على الاحتجاج، وشتم أسماء حكومية، ومرة أخرى تطحنه الرحى وترجعه إلى نقطة الصفر كالعادة، لتنطلق سلسلة معاناة وقهر سيتكبدها الوالدان والمعتقل، وحكايات أخرى مع القفة، وزحمة المواصلات، والتنقل والانتظار، والنحيب.