رب ضارة نافعة
المصطفى مورادي
بات مؤكدا الآن أن حالة الطوارئ الصحية التي طبقها المغرب كانت عاملاً مُسرعا لوتيرة رقمنة عدد من الخدمات العمومية، وعلى رأسها تقديم خدمة التعليم، وهي خدمة ضمنت ديمومة تربوية، بشكل فرض على جميع المتدخلين في التربية والتكوين إعادة النظر في الأنماط العادية للعمل، والتحول نحو العمل التربوي والإداري عن بُعد.
هكذا تعيش الوزارة الآن مرحلة فريدة في تاريخها باعتماد الرقمنة، ليس فقط على مستوى التدريس ولكن أيضا على مستوى التدبير، حيث تم تقليص وجود الموظفين إلى مستويات دنيا، وتم خلق تطبيقات ودوائر تواصلية على الصعيدين الجهوي والمركزي للقيام بالعديد من العمليات الإدارية والمالية. هذه المرحلة ينبغي استثمارها لتخفيف الاعتماد على الورق والبشر، بشكل يخدم طموح «المغرب الرقمي»، هذا الطموح الذي يقع في قلب النموذج التنموي الجديد.
فمثلما أضحى الاعتماد على الرقمنة في بعض العمليات التربوية مكسبا حقيقيا للمنظومة التربوية (مسار، مسير، كريزا.. إلخ)، فإن الرقمنة في التدبير أيضا يمكن أن تكون مكسبا، وعوض أن يصبح الخصاص في الموارد البشرية على صعيد بعض الإدارات مبررا لتأخير تنفيذ العديد من المشاريع، فإن استغلال ظروف الحجر الصحي الحالية لرقمنة الإدارة أضحى أمرا حيويا. ليصبح انخراط الوزارة في الرقمنة شاملا، بحيث تصبح منظومة التربية والتكوين كلها معتمدة على الذكاء الاصطناعي، الذي يتيح فرصا تربوية وتدبيرية وتواصلية من شأنها أن تغير الثقافة التدبيرية السائدة في بعض العمليات التي يقوم بها المدبرون يوميا، مركزيا وجهويا وإقليميا. بما في ذلك مشاريع المؤسسة التي أضحت عنوانا لتدبير المؤسسات التعليمية اليوم.
فإذا كان اعتماد الرقمنة في التدبير التربوي فرض على المدبرين في سياق الحجر الصحي، فإنه ينبغي اعتباره خطوة إلى الأمام، والتراجع عنها أمر مرفوض. فإلى جانب احتواء مشكلة الخصاص في الموارد البشرية، وهو المشكل الذي تعاني منه كل الأكاديميات الجهوية، على مستوى الأقسام والمصالح، هناك أيضا إمكانات لمتابعة تنفيذ المشاريع المطروحة بطرق أسهل تفوق القدرات البشرية العادية، مع ما يتبع هذا أيضا من فوائد اقتصادية كبيرة، لذلك فإن العديد من العمليات التي تفرض تنقل الموظفين والمدرسين والإداريين من وإلى مقرات الأكاديميات أو إلى مقرات الإدارة المركزية، تفرض جهدا كبيرا، سواء على مستوى التوقيت أو على مستوى الجهد المالي.
فمثلما أدى اكتساح الذكاء الاصطناعي إلى اختفاء العديد من المهن، وتغير الوجه الاقتصادي للعالم، بدليل ارتفاع عدد الأغنياء الذين بنوا ثرواتهم باقتصاد الرقمنة، فإن اعتماد الذكاء الاصطناعي على مستوى التدبير في قطاع التربية والتكوين سيؤدي إلى تقليص البنيات الإدارية أيضا، أي إلى الاستغناء عن العديد من المديريات المركزية والأقسام والمصالح والمكاتب، وستظهر إمكانات تدبيرية لم تكن الإدارات تفكر فيها أو تعتمدها، تماما مثلما أضحى الذكاء الاصطناعي يساعد المدرسين في إجراء تحليلات لمردودية التلاميذ وتوجيههم نحو التخصصات والمهن المناسبة لميولاتهم ومهاراتهم، النفسية والوجدانية والعقلية والجسدية.
هكذا فالذكاء الاصطناعي لا يشكل تهديدا بقدر ما سيساعد على تبسيط مهام التدريس الأساسية ومساعدة مديري المؤسسات التعليمية على التصدي للتحديات الرئيسية التي تواجه المدرسة، كالرفع من كفاءة المدرسين، وتوقع متطلبات المتعلمين المختلفة، فضلا عن تحقيق درجات مرتفعة للحكامة على مستوى التدبير، وهذا لا يعني التخلي عن العامل البشري بشكل نهائي وإنما حسن تدبيره، فأدوار المدرسين ستظل دائمًا موجودة، لكنها ستختلف من حيث قيمتها العملية والتربوية، لتصبح أكثر شمولية بحيث ستهتم أكثر بالبعد الاجتماعي والنفسي الذي لا ولن تتمكن الآلة من تعويضه، فأصل المثابرة والتحفيز في المدرسة عند العديد من المتعلمين يبقى هو التفاعل الإنساني والاتصال البشري.