رائحة الشوامخ
هذه لقطة تركية تذكرنا بزمن «الشوامخ» في مصر.
ذلك أن الرئيس رجب طيب أردوغان أقام في المقر الرئاسي احتفالا بمناسبة افتتاح السنة القضائية الجديدة.
وحضر الاحتفال أعضاء السلك القضائي في محاكم الاستئناف، الذين استقبلوا الرئيس بالتصفيق وقوفا.
وإذ يبدو ذلك خبرا عاديا في بلادنا إلا أن المشهد لم يمر في الساحة التركية، فقد امتنع عن حضور الحفل رئيس حزب الشعب الجمهوري كيلجدار أوغلو ورئيس اتحاد المحامين متين فيز أوغلو.
باعتبار أنه ليس لرئيس الدولة أن يدعو القضاة إلى مقر الرئاسة، لأن في ذلك شبهة تنال من صورة القضاء المستقل.
كما أن رئيس حزب الشعب انتقد وقوف القضاة للرئيس وتصفيقهم له، وقال في هذا الصدد إن القاضي الذي اعتدنا عليه لا يقف للرئيس حتى إذا كان ذلك على سبيل المجاملة وتعبيرا عن الاحترام له، ثم إن تصفيقه ينتقص من قدره ويجرح استقلاله.
وذكر أن القاضي المستقل ليس مضطرا لمجاملة أي أحد من رجال السلطة. وأن انقلابيي عام ١٩٨٠ (الأسوأ في التاريخ التركي المعاصر) لم يطلبوا من القضاة التصفيق لهم أو الوقوف لهم، كما لم يجبروهم على الاحتفال بالسنة الجديدة في قصر الحاكم.
إزاء ذلك اضطر الرئيس أردوغان إلى الرد قائلا إن الذين قاطعوا الاحتفال عليهم احترام روح المصالحة التي سادت بعد محاولة الانقلاب الفاشلة.
وأكد أن رعايته لاجتماعات القضاة لا تمس نزاهتهم خصوصا أنه هو من عينهم في مناصبهم.
المشهد يذكرنا بما نسيناه عن زمن القضاء الشامخ في مصر، وعن ثقافة القضاء المستقل في الخبرة الإسلامية، يوم كان عبد العزيز باشا فهمي رئيس النقض متجها بسيارته إلى مكتبه، فقرأ مقالة انتقدت راتبه الشهري (الذي كان متواضعا).
فغير طريقه وذهب إلى القصر الملكي لكي يقدم استقالته، معبرا عن غضبه لمجرد الشك في أن الحكومة تجامله في الأجر.
ولم يرجع عن استقالته إلا بعد اعتذار الملك له، واعتذار كاتب المقالة.
ويوم زار وزير العدل في حكومة السعديين مرسى بدر محكمة النقض وبعد عودته إلى مكتبه وجه خطاب شكر إلى رئيس النقض أحمد باشا حسن، فما كان من الأخير إلا أن رد له خطابه قائلا إنه يرفضه لأن من يملك الشكر والمديح يملك الذم، وكلاهما مرفوض من جانبه ويوم عرض على المستشار البشري الأب أن توفر له الحكومة حرسا وسيارة أثناء نظره قضية مقتل الخازندار. فرفض قائلا إنه لا يستطيع أن يذهب إلى محكمة الجنايات في حراسة الحكومة وسيارتها، وهو القاضي المستقل الذي لا يقبل مجاملة من السلطة التنفيذية.
هذه التقاليد المتشددة في النزاهة واستقلال القاضي عن السلطة من ثمار الرصيد الكبير الذي وفرته الثقافة الإسلامية لضبط تلك العلاقة، فقد روى عن النبي عليه الصلاة والسلام نهيه عن غشيان أبواب السلاطين. ومشهورة مقولة «شر العلماء أقربهم من الأمراء».
وحين احتكم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في قضية له مع آخر، فإن القاضي قال له: قم يا أبا الحسن وقف أمام خصمك، ليتساوى الاثنان أمامه. فإن أبن أبي طالب رد القاضي قائلا: لقد ناديتني بكنيتي وناديته باسمه، بما يعني أن في ذلك شبهة مجاملة لأمير المؤمنين، الأمر الذي يخل بنزاهة القاضي وإنصافه.
وقد أفرد الإمام أبوحامد الغزالي فصلا خاصا في كتابه إحياء علوم الدين عن حرمة الدخول على السلاطين، «حتى ليدخل القاضي على السلطان ومعه دينه، ويخرج وما معه دينه».
ولابن مفلح المقدسي حديث مفصل في «انقباض العلماء المتقين في إتيان الأمراء والسلاطين». وقال إن الدخول عليهم له ثلاثة أحوال: شرَّها أن يدخل عليهم ــ ودونها أن يدخلوا عليه، والأسلم ان يعتزلهم فلا يراهم ولا يرونه… إلخ.
إننا نشم رائحة الشوامخ في الكتب والمصنفات، بعدما صاروا أطيافا نوارنية تلوح في الفضاء، حتى صرنا نتلهف على رؤيتهم يمشون بيننا على الأرض.