ذكريات التلفزيون المغربي: قصة نقل جلسات برلمان 1963 على التلفزيون.. معارك بالصوت والصورة
يونس جنوحي:
قبل بداية أول برنامج حواري في تاريخ المغرب على أمواج التلفزيون، كان المغاربة على موعد مع أول نقل تلفزي بمضمون سياسي، مع جلسات البرلمان سنة 1963، حيث استمرت الولاية التشريعية الأولى إلى سنة 1965، قبل أن تُجمد حالة الاستثناء التي أطلقها الملك الحسن الثاني كل شيء، ويُغلق على إثرها البرلمان، حيث تأثر التلفزيون كثيرا بتلك المرحلة.
كان رئيس البرلمان هو الدكتور عبد الكريم الخطيب، وكان شقيقه عبد الرحمن الخطيب هو وزير الداخلية. كان هذا في زمن جلوس الوزير باحنيني في كرسي الوزارة الأولى، حيث كان بقية الوزراء يدورون في فلك هذه الأسماء القريبة جدا من الملك الحسن الثاني، فيما كان حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في المعارضة.
وكان النواب الاتحاديون، الذين يترأسهم الدكتور عبد اللطيف بنجلون، يشنون هجومات شرسة ضد وزراء حكومة باحنيني.
لكم أن تتصوروا كيف ستكون جلسات برلمان «يُرافع» فيه فريق برلماني مكون من عبد الرحيم بوعبيد، الذي كان محاميا، والمهدي بن بركة الذي كان مفوها ومولاي المهدي العلوي بالإضافة إلى الفرقاني الذي كان من قدماء المقاومة، ومحمد بن إبراهيم الشتوكي، والمعطي بوعبيد ومحمد التبر ومحمد الحبابي ولائحة من الجامعيين الذين نشؤوا في الحركة الطلابية وتدربوا على المداخلات.
كان التلفزيون المغربي ينقل هذه الأجواء، وكان الملك الحسن الثاني في تلك السنة (1963) يتابع بنفسه جلسات البرلمان ويشاهد بالصورة والصوت، كيف كانت المعارضة الاتحادية تهاجم وزراءه.
تلفزيون في غرفة الملك
كان وزراء الحكومة، خصوصا منهم الذين كانوا على اتصال شخصي مع الملك الحسن الثاني، يعرفون جيدا أن الملك كان يتابع جلسات البرلمان. لذلك كان بعضهم قد أوشكوا على فقدان صوابهم عندما يهاجمهم برلمانيو المعارضة الاتحادية، خصوصا وأن بعض الجلسات تحولت إلى محاكمات، إذ إن أحد وزراء حكومة باحنيني اتهم مرة الاتحاديين بالخيانة وسط البرلمان، معلقا على خبر خروج المهدي بن بركة إلى الجزائر وإدلائه بتصريحات صحفية اعتُبرت وقتها نارية بخصوص موقفه الشخصي من حرب الرمال.
وفي الجلسة المقبلة داخل البرلمان، تجهز برلمانيو الاتحاد الوطني للقوات الشعبية للدفاع عن زميلهم المهدي بن بركة، وأخرجوا وثيقة من أرشيف الصحافة الفرنسية تعود لسنة 1953، تقدم أحد وزراء حكومة باحنيني في صورة وهو يصافح محمد بن عرفة عندما تم تنصيبه سلطانا بعد نفي الملك الراحل محمد الخامس، فيما هناك رواية أخرى تقول إن الأمر كان يتعلق بمقال يضم لائحة شخصيات قدمت دعمها لابن عرفة عندما نُصب سلطانا للمغرب بعد نفي محمد الخامس، وكان اسم وزير حكومة باحنيني في اللائحة. وبمجرد ما أشهر الفريق البرلماني صورة المقال حتى هاج الجالسون في كراسي البرلمان، وقُطع البث.
من هو الشخص الذي كانت لديه سلطة في المغرب تسمح له بإعطاء الأمر لقطع بث جلسات البرلمان على التلفزيون المغربي سنة 1963؟
الجواب لا يحتاج إلى تفكير كبير، أحمد رضا اكديرة، الوزير برتبة مستشار، أو المستشار برتبة تفوق الوزير الأول، هو المرشح الأبرز لإعطاء أمر مماثل للقائمين على التلفزيون.
لكن المفاجأة أن الملك الحسن الثاني اتصل بنفسه، بمجرد ما قُطع البث، وأعطى الأمر فورا لكي يعاد تفعيل البث لاستكمال مجريات الجلسات البرلمانية.
وكانت تلك اللحظة فارقة جدا في تاريخ تغطية الجلسات البرلمانية بالصوت والصورة، حيث تابع ملايين المغاربة تلك الجلسات الساخنة، والتي كثيرا ما تحولت إلى محاكمات لوزراء حكومة باحنيني على يد المعارضة.
كيف كان يُقطع البث؟
كان أحمد رضا اكديرة يحمل سماعة الهاتف ويطلب مدير التلفزيون المغربي ويطلب منه أن يقطع البث. هكذا ببساطة. وفي واقعة البرلمان، عاد الملك الحسن الثاني واتصل بمدير التلفزيون وأمر بعودة البث فورا.
منذ تلك الواقعة، أصبح تقنيو التلفزة المغربية العاملين في البرلمان، لا يستطيعون مغادرة المقر حتى لو تلقوا تعليمات بإيقاف البث، إذ كان دائما متوقعا أن يأتي اتصال آخر يأمر بعكس ما جاء به الاتصال الأول. كانت التلفزة المغربية مضمارا يخوض فيه النافذون حروبهم في العلن، ويستعرضون نفوذهم حسب قربهم من الملك الحسن الثاني. إذ إن رضا اكديرة، بلغ به حد سيطرته على التلفزيون، أن يتدخل حتى في تحديد الوجوه البرلمانية التي يجب التركيز عليها، ومن من الوزراء يجب أن يُنقل أثناء مداخلاته أكثر من البقية، وأحيانا كان يتم قطع البث أو تحويل الكاميرا عن وجه أحد البرلمانيين أو الوزراء، إذا كان يتوفه بكلام مُحرج.
أحد هؤلاء البرلمانيين الذين كانوا يصيبون العاملين في التلفزيون بهذا الإحراج، هو البرلماني والمؤرخ السابق، الذي دخل البرلمان في لائحة المستقلين، عبد الكريم الفيلالي. هذا الأخير، كان يصعد منصة البرلمان، ويلقي خطابات نارية، يتهم فيها الوزراء والحكومة بالفساد ويندد بتردي الأوضاع الاجتماعية ويضرب الطاولة وهو يحدث الوزراء بدون مراعاة لوضعهم الاعتباري.
وكانت تلك المداخلات تتسبب في إحراج للوزراء أمام الملك الحسن الثاني، وكثيرا ما توسل بعضهم ألا تركز الكاميرا على الفيلالي عندما كان يهاجمهم أمام ملايين المغاربة.
امتدت هيمنة أحمد رضا اكديرة على التلفزيون لتتجاوز البرلمان، وتصل إلى قلب استوديو مسرح محمد الخامس. هذه المرة، سوف يتدخل ليوقف برنامجا حواريا هو الأول من نوعه في تاريخ المغرب، ولأول مرة كان المغاربة على موعد مع برنامج سياسي، على غرار البرامج الفرنسية، حيث يستضيف التلفزيون وزيرين مغربيين، الأول من الحكومة التي كانت تمارس المهام، والثاني من الحكومة التي سبقتها، لتتحول الحلقة إلى صراع خرج عن سيطرة أحمد رضا اكديرة، الذي أمر بإيقاف بث البرنامج، كما لو أن التلفزيون المغربي مجرد مصلحة تابعة لمكتبه الخاص.
الإذاعي المغربي، الذي كان أول من كتب عن ذاكرة التلفزة المغربية في مذكراته «رحلة حياتي مع الميكروفون»، كان في قلب تلك الزوبعة، وكان هو الصحافي الذي عاش تلك الأزمة بتفاصيلها، وسجلها في مذكراته.