ذكريات التلفزيون المغربي المنسية
الأمريكيون خافوا من تدخل السوفيات في إطلاق التلفزة المغربية سنة 1962
كيف بدأت التلفزة المغربية؟
يوم 3 مارس 1962، ذكرى عيد العرش الأول في فترة حكم الملك الراحل الحسن الثاني، أعطيت انطلاقة عمل التلفزة المغربية. بات المغاربة قادرين على رؤية الأخبار وليس سماعها فقط على الأثير.
ومنذ يوم تأسيس التلفزة المغربية، وقف أمامها وخلفها أيضا، رجال تركوا بصمة في تاريخ التلفزيون في المغرب، وأصبح هذا الجهاز حاضرا بقوة في حياة المغاربة، وفي الأحداث المفصلية التي مرت بها البلاد.
بقي الراديو حائزا على اهتمام الطبقات الشعبية، ولم يزحه التلفزيون حتى بعد انتشار الجهاز في البيوت، وظل الجهازان معا يشكلان نافذة تواصل مع المغاربة خلال الأزمات والمناسبات أيضا. كيف بدأ التلفزيون في المغرب؟ من هم رجاله ولحظاته المنسية؟ وكيف تحول من مجرد صندوق لنقل الصور، إلى وسيلة للتأثير عاش معها المغاربة ذكريات لا تُنسى..
بعض التقارير التي سوف نتناولها في هذه الحلقات، تؤكد أن التلفزيون في المغرب لم يكن أبدا وسيلة ترفيه، بل امتدادا للسلطة.
مات جل الذين شهدوا انطلاقة التلفزيون المغربي وعاشوا وسط دوامة السنوات الأولى لبداية البث بالصوت والصورة مع ما كانت تحمله من طرائف ونوادر وقصص ساخرة وأخرى مُبكية.. وهذه أقوى مضامينها.
يونس جنوحي:
الأمريكيون خافوا من تدخل السوفيات في إطلاق التلفزة المغربية سنة 1962
مع اقتراب شهر مارس سنة 1962، كانت الأشغال على قدم وساق لإعلان بداية اشتغال التلفزيون المغربي.
وحسب وثائق المخابرات المركزية الأمريكية، التي رُفعت عنها السرية سنة 2012، فإن أحد مسؤولي هذا الجهاز كان في زيارة إلى الرباط، وقدم لأحمد رضا اكديرة، الذي كان وقتها مديرا لديوان الملك الحسن الثاني منذ أن كان وليا للعهد، ويستعد لدخول غمار العمل السياسي من خلال تأسيس حزب «الفديك» (جبهة الدفاع عن القوى الديموقراطية)، تقريرا عن استعمال جهاز التلفزيون في الدعاية لإضعاف المعارضة. التقرير كان مقتضبا، ويرمي إلى التأسيس لتلفزيون حكومي يقدم وجهة نظر الدولة. لكن لماذا أراد الأمريكيون تقديم هذه النصائح إلى المغرب؟
لقد كان هناك تخوف لدى الأمريكيين، حسب ما أورده ضابط الاستخبارات الأمريكية السابق والمتخصص في شؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، السيد وليام بلوم، من أن تحصل دول شمال إفريقيا على معدات البث التلفزيوني هدية من الاتحاد السوفياتي، ولم يكن يرد الأمريكيون أن يؤثر السوفيات بأفكارهم على الإعلام التلفزي في الدول التي تخطط لإدخال التلفزيون إلى بيوت مواطنيها.
من أدخل التلفزيون إلى المغرب؟
بعض الذين طرحنا عليهم هذا السؤال، أجابوا بأن الأمر يشبه كثيرا التساؤل عن أيهما سبق إلى الوجود: الدجاجة أم البيضة؟
لكن الحقيقة أن التلفزيون دخل إلى المغرب بفكرة راودت الملك الراحل الحسن الثاني. إذ إنه عندما أصبح ملكا للمغرب، وعند أول زيارة قام بها إلى فرنسا باعتباره ملكا للمملكة المغربية، أثار انتباهه أن الفرنسيين كانوا ينقلون تفاصيل زيارته إلى فرنسا على التلفزيون، وأن والدته، كانت تستمتع بصور البث على التلفاز المثبت في غرفة إقامتها وتتابع تفاصيل الاستقبال المهيب الذي خصصته الجمهورية الفرنسية لاستقبال الملك الحسن الثاني. ومنذ عودته إلى الرباط وفكرة تأسيس تلفزيون مغربي تختمر في
ذهن الملك، ليعطي التعليمات إلى مستشاريه لبدء أشغال دراسة لتحديد ما يتطلبه تأسيس تلفزيون مغربي يغطي الأنشطة الملكية ويعرض البرامج ونشرات الأخبار بالصوت والصورة ليراها المغاربة، تماما مثلما يستمتع الفرنسيون بتلفزيونهم الرسمي.
سرعان ما انتشر الخبر في جنبات القصر الملكي، وأصبح الموضوع حديث الوزراء وكبار المقربين من الملك الحسن الثاني مثل الجنرال أوفقير ورضا اكديرة وعبد الهادي بوطالب والدبلوماسي السنوسي وآخرين.
كان حرازم غالي، وهو أحد المسؤولين في القصر الملكي عن الاتصال والصحافة قبل أن تؤسس وزارة الإعلام في حكومة 1963، أحد أوائل الذين كلفهم الملك الحسن الثاني بإعداد تقارير تقنية عن مشروع التلفزيون، وكان لدى المقربين من الملك مهلة أشهر فقط لتأسيس التلفزيون المغربي، بحيث كان الملك الحسن الثاني يريد إعطاء انطلاقة التلفزيون يوم 3 مارس 1962، وهو اليوم الذي يصادف ذكرى احتفالات عيد العرش الأولى في مرحلة حكم الملك الحسن الثاني. أي أنه لم يكن هناك نهائيا أي هامش للخطأ. إحياء الذكرى الأولى لجلوس الملك الحسن الثاني على العرش، يجب أن يكون فيها التلفزيون المغربي حاضرا.
قام القصر الملكي، من خلال الموظفين الذين كلفوا بالسهر على ترتيب إجراءات تأسيس التلفزيون المغربي، بالدخول في مفاوضات مع مسؤولي التلفزيون الفرنسي لاقتناء التجهيزات الضرورية، وإحضار مهندسين فرنسيين لتحديد أماكن تأسيس الأستوديو وآليات البث التلفزيوني والكاميرات وغيرها من المعدات الضرورية لإطلاق التلفزيون. وقتها فقط، تنفس الأمريكيون الصعداء.
التلفزيون سلاح!
لنعد الآن إلى المسؤول الأمريكي الذي كان ينتظر دوره للدخول إلى مكتب رضا اكديرة في القصر الملكي بالرباط. كان هذا المسؤول قد جاء على متن طائرة قادمة من طهران، حيث كان في زيارة إلى مصالح السفارة الأمريكية هناك، وتوقف في المغرب لتبليغ التقرير الذي أعده زملاؤه في وكالة الاستخبارات المركزية عن احتمال دخول السوفيات على خط تأسيس التلفزيون المغربي. جاء في التقرير أن عملاء أمريكيين رصدوا وجود اتصالات مع السفارة السوفياتية في الرباط حيث عرضت السفارة على الملك الحسن الثاني بشكل سري، أن تضع رهن إشارته خبراء ومهندسين سوفيات في البث التلفزيوني لكي يتولوا تأسيس التلفزيون المغربي، مع تقديم هدية للمغرب عبارة عن أحدث تجهيزات البث التي توصل إليها السوفيات.
لكن لم يتسن للأمريكيين التأكد من صحة تلك المعلومات، وأوردوا في التقرير تحذيرات للملك الحسن الثاني في حالة ما اعتمد خدمات السوفيات، والآثار الجانبية التي قد يخلفها ذلك التعاون، من انتشار للأفكار اليسارية في التلفزيون المغربي أو توظيف للشيوعيين، الذين كانوا يعادون السياسة الأمريكية.
لكن الملك الحسن الثاني كان واقعيا. بما أنه أعجب بتجربة التلفزيون الفرنسي الذي نقل على المباشر لبيوت الفرنسيين تفاصيل الاستقبال الملكي الكبير الذي أقيم على شرفه أثناء أول زيارة له إلى فرنسا عندما جلس على العرش سنة 1961، فقد قرر التعامل مع مهندسين فرنسيين لنسخ التجربة الفرنسية في المغرب، خصوصا وأن مهندسين فرنسيين كانوا لا يزالون يشتغلون في مصالح البريد في المغرب بعد الاستقلال. كما أن الصداقة المتينة للملك الحسن الثاني مع رئيس الجمهورية الفرنسية سواء مع «ديغول» أو «بومبيدو» من بعده، كان لها دور كبير في فتح المجال أمام مهندسين فرنسيين لاقتناء المعدات التقنية وتأسيس التلفزيون المغربي.
مع اقتراب يوم 3 مارس 1962، كانت ساعة الصفر لإعلان بداية التلفزيون المغربي تنطلق.
وعلى عكس ما تم ترويجه في وسائل إعلام معادية للمغرب، فإن الرباط كانت تتوفر على كفاءات مغربية محلية في الإعلام كانوا مؤهلين جدا لإطلاق التلفزيون المغربي. إذ إن الراديو وقتها كان واسع الانتشار، ويشهد ثورة حقيقية على مستوى المضمون والبرامج الموجهة للمستمع المغربي منذ استقلال البلاد سنة 1956.
بل إن المغاربة بدؤوا وقتها يخلقون نوعا من الألفة مع الأصوات المغربية في الراديو وتحظى بعض البرامج الحوارية والإخبارية بمتابعة كبيرة جدا في المغرب. وهو ما جعل صحافيي الراديو مؤهلين للعمل في التلفزيون. ولم يكن الأمر يتطلب سوى تدريبات على الظهور أمام الكاميرا.
كانت تجربة التلفزيون المغربي في نسخته الأولى واعدة جدا، والترقب لإطلاق التلفزيون كان على أشده.
الأمريكيون لم يقدموا للمغرب أي دعم على مستوى التجهيزات، رغم أن بعض «الإشاعات» كانت تروج أن الأمريكيين كان لديهم بث تلفزيوني في القاعدة الأمريكية بمدينة القنيطرة خلال سنوات الخمسينيات من القرن الماضي. وتحدث بعض الذين كانوا يعملون داخل القاعدة الأمريكية، عن وجود شاشات تلفزيون عملاقة. لكن لم يتسن التأكد من صحة تلك المعلومات، خصوصا وأن الحصول على بث تلفزيوني أو تأسيس قناة تلفزية داخل القاعدة الأمريكية كان مكلفا. ربما كان الأمريكيون يوفرون لرعاياهم داخل القواعد الأمريكية في المغرب خدمة مشاهدة الأفلام من خلال شاشات التلفزيون، كما هو الشأن في المدن الأمريكية منذ أربعينيات القرن الماضي.
وبمناسبة الحديث عن التجارب الأجنبية، فقد راج في أوساط الفرنسيين مع بداية الخمسينيات، أن فرنسا تؤسس لإطلاق تجربة تلفزيون داخل المغرب يستفيد منها رعاياها في المغرب، خصوصا في المدن الكبرى مثل الدار البيضاء، الرباط ومراكش وفاس. لكن لا توجد أي إشارات تؤكد عمل الإدارة الفرنسية على إطلاق المشروع. وهكذا أصبح أول مشروع لإطلاق قناة تلفزية عندنا، مشروعا مغربيا خالصا أطلقه الملك الحسن الثاني لكي يتزامن مع الذكرى السنوية الأولى لجلوسه على العرش، وأصبح يوم 3 مارس 1962، يوما تاريخيا في المغرب.