شوف تشوف

الرأي

«ديربي» منتصف الليل

حسن البصري

كتب لي أن أتابع من «ستاد القاهرة الدولي» مباراة «الديربي» المصري لكرة القدم، بين الزمالك والأهلي، في بداية التسعينات. لم تكن حركة «الألتراس» قد غزت المدرجات العربية بعد، وكان التشنج حاضرا في المنصة الصحفية بين صحافة الزمالك والأهلي، وكان الحرس المصري يتدخل لفض النزاع. وحين سجل الأهلي هدف السبق انتفض من حولي ثلاثة صحافيين وقدموا وصلة رقص نكاية في زملائهم الزملكاويين. لحسن الحظ أن المباراة انتهت بلا غالب ولا مغلوب. وحين غادرت الملعب شاهدت الصحافيين المتنازعين يتناولون «كباية لمون»، في مقصف الملعب، فركت عيني لأتأكد من المشهد، وأنا أسترجع الشتائم التي دارت بينهم والتي وصلت حدود عتبة غرف النوم.
تابعت «ديربي» الجماهيرية في عهد القذافي، بين أهلي طرابلس والاتحاد، وتبين أن «الديربيات» في العالم العربي لها نفس اللون والرائحة. جميع المواجهات تبدأ بنفحات الروح الرياضية، وتنتهي بشظايا الغضب وحمم «الكلاشات».
ذات يوم استفاق القذافي باكرا، فخطب ود «الديربي» وقال لسفيره في الرباط: «هات لي الديربي إلى ليبيا حيا»، بعد أيام كان لاعبو الوداد والرجاء جنبا إلى جنب في طائرة ليبية، وهي تستعد للإقلاع نحو مطار طرابلس الدولي، لخوض مباراة مغتربة في إطار «دوري الصقر الوحيد».
حتى في ليبيا انتهت المباراة بلا غالب ولا مغلوب، وقبل أن يغادر اللاعبون الملعب نزل الساعدي القذافي إلى رقعة الملعب، ووعد بجلب جماهير الفريقين حتى يكتمل ديكور «الديربي»، انفلتت صافرة من جوف الحكم الليبي الذي كاد أن يبتلعها من شدة الهلع، أما المذيع فشرع في نظم أبيات الفخر للفكر الجماهيري ونسي التعليق على المباراة.
لم تتح لي فرصة متابعة «ديربي» تونس بين الترجي الرياضي والنادي الإفريقي، و«ديربي» الجزائر بين اتحاد العاصمة ومولودية الجزائر، و«الديربي» السوداني بين المريخ والهلال، لكنها تحمل شحنات التعصب والاحتقان نفسها، وكأنها معارك أهلية مرتين كل عام تمنح فيها الدولة للمتنازعين متسعا من الوقت لتفريغ عبواتهم الناسفة وفرصة لعرض آخر مستجدات قواميس الشتائم، قبل الانصراف إلى حال سبيلهم بعد انتهاء المباراة.
صدام الدار البيضاء إفراز لتعصب سياسي وتاريخي وطبقي، حيث كان ينظر للوداد كفريق الطبقة النبيلة، فيما صنف الرجاء في خانة نادي الشعب، رغم أن هذه الفرضية لا تجد مبررات لها على أرض الواقع، إذ لا دخل للطبقية في هذا النزال، لأن الفريقين معا ولدا من رحم معاناة الطبقة الشعبية في المدينة القديمة أو درب السلطان، قبل أن يتسلل العشق إلى باقي الأحياء.
أعرف أن الرياضة تزيل الدهون، لكنها لا تمحو الذنوب ولا تغفر الخطايا التي ترتكب باسمها، كما قال أحد الكتاب المصريين، فالذين يحاولون فصل الدين عن السياسة يخلطون السياسة بالرياضة، وتجدهم يطالبون بالتغيير في أعلى هرم الدولة، معتقدين أنهم في ملعب للكرة يسمح فيه الحكم بإجراء خمسة تغييرات لكل فريق. لقد ساد الاعتقاد أن الشخص الوحيد في هذا البلد الذي يقوم بالتغيير الصحيح هو مدرب الوداد البنزرتي، وأن قطبي الكرة المغربية الرجاء والوداد، أشبه بقطبي سياسة لا غنى عنهما في تحقيق السلم الاجتماعي، رغم أن الكرة سقطت سهوا من أوراق النموذج التنموي.
لتحقيق السلم الاجتماعي تراهن الدولة على «ديربي» ينتهي في منتصف الليل، وتسعى جاهدة كي يحصل الوداد على درع الدوري، وينال الرجاء كأسا فضية وتحصل باقي الأندية على إنذارات.
لكن ما نخشاه اليوم هو أن يغلب عشق النادي ويسيطر على حب المنتخب، وتصبح نتائج الفريق الوطني في درجة ثانية، فتضعف جينات الوطنية بسبب عشق الفريق الذي زحف على مساحات كبيرة في القلب، وبات أولى من حب الوطن والوالدين.
«ديربي إيه اللي جاي تقول لي عليه»، مع الاعتذار لـ«كوكب الشرق».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى