دورة الحج السنوية
المغاربة يهتمون جدا بالأضحية، ويسمونه (الحولي) ولكن فكرة القربان بالحيوان في عيد الأضحى لها جذور يجب شرحها؛ فمن أين جاءت فكرة القربان بالأصل؟
لعل الخوف كما قال لو كريشس وخصوصاً الخوف من الموت؛ شكل التحدي العقلي الأول للإنسان، فقد كانت الحياة البدائية محاطة بمئات الأخطار، وقلما جاءتها المنية عن طريق الشيخوخة الطبيعية؛ فقبل أن تدب الشيخوخة في الأجسام بزمن طويل، كانت كثرة من الناس تقضي بعامل من عوامل الاعتداء العنيف، ومن هنا لم يصدق الإنسان البدائي أن الموت ظاهرة طبيعية، وعزاه إلى فعل الكائنات الخارقة للطبيعة.
وأمام هذه الأخطار بحث الإنسان عبثا عن مخرج لهذا التحدي، فهداه عقله إلى فكرة القربان بالتضحية بالإنسان؟ فليس أغلى من الإنسان لترضية الآلهة المرعبة في هذا الكون المخيف؟
وينقل المؤرخ ديورانت في كتابه قصة الحضارة عن هذه الظاهرة بقوله (أن التضحية بالإنسان، قد أخذ بها الإنسان، في كل الشعوب تقريباً؛ فقد وجدنا في جزيرة كارولينا في خليج المكسيك، تمثالاً كبيراً معدنياً أجوف، لإله مكسيكي قديم فوجدنا فيه رفات كائنات بشرية، لا شك أنها ماتت بالحرق، قرباناً له. وكلنا يسمع بـ (ملخ) الذي كان الفينيقيون والقرطاجيون وغيرهما من الشعوب السامية حينا بعد حين يقدمون له القرابين من بني الإنسان.
وفي فيلم نهاية العالم (Apocalypse) الذي أخرجه ميل جبسون عرض علينا وضع المكسيك قبل وصول هيرناندو كورتيس إليها، والطريقة المخيفة التي كان الأزتيك يضحون بالإنسان في عيدهم الكبير، بوضع الضحية على حجر ومسك أطرافه الأربعة ليأتي الكاهن فيغمد الخنجر في الصدر ويستخرج القلب وهو يخفق؟
في هذا الصدد قامت قناة الديسكفري بتجربة علمية في إمكانية فهم التضحية بثلاثين ألف ضحية في أيام معدودات؟ وخلصت إلى النتيجة التي تقول أن طريقة الأزتيك في التضحية بالبشر بهذه الكيفية ممكنة.
وحين عاش إبراهيم عليه السلام قبل أربعة آلاف سنة ومر على الفراعنة وتضحيتهم بالفتيات في النيل استرضاء له كي يفيض، لم يعلم النبي ذو الحجة أي شيء عن ثقافة القرابين المرعبة في أمريكا الوسطى؛ فالأطلنطي كان حاجزا بين تواصل الحضارات.
بالإضافة لهذا فقد كان اللحم الإنساني مستخدما للأكل قبل أن تصل البشرية إلى فكرة الحرام، ومنه نفهم قوله تعالى أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه.
وينقل المؤرخ ديورانت في موسوعته أن (بيير لوتي) مر بجزيرة تاهيتي فراعه أكلهم لحم البشر، حين أخذ رئيس من رؤساء البولينزيين يشرح له طعامه فقال: إن مذاق الرجل الأبيض إذا أحسن شواؤه كمذاق الموز الناضج، وأما في جزيرة بريطانيا الجديدة؛ فقد كان اللحم البشري يباع في الدكاكين، كما يبيع القصابون اللحم الحيواني اليوم، وكذلك في بعض جزر سليمان كانوا يسمنون من يقع في أيدهم من الضحايا البشرية، وخصوصاً النساء، ليولموا بلحومهم الولائم كأنهم الخنازير.
ومن هذه البوابة تم امتحان إبراهيم عليه السلام بالتضحية بابنه قربانا كي يصل إلى استبدال وإلغاء هذه العادة حين فدي بكبش عظيم.
ولكن عمق الترميز لم يتفطن له كثير من الناس أن التضحية بالإنسان أو أكله لم تعد واردة، وتحت هذا البند تدخل التضحية بطريقة جديدة هي الحرب، فإبراهيم في الحج أعلن التوقف عن التضحية بالإنسان في أية صورة وشكل، ومنها الحرب أو إعلان السلام العالمي، ولكن ظاهرة الحرب استمرت ومعها التضحية بالقرابين البشرية.
ربما حاليا في ظل اضطراب أوضاع الشرق المنكوب وقتل الناس على شكل قرابين تحت شعارات مختلفة تقرب إلينا أهمية هذه الفكرة من عدم التضحية بالإنسان على أي مذبح.
إلا أن (ظاهرة الحرب) أصبحت قربانا هائلاً مخيفاً، من نوع جديد، وكانت إفرازا لتكون الدولة، ونمو الحضارة في فجر التاريخ البشري؛ فالدولة نشأت على العنف، إلا أنها وحسب الخط الذي بنيت عليه، أصيبت من نفس العلة بعدوى العنف، إنما بشكل آخر؛ ففي الوقت الذي استطاعت الدولة توفي الأمن الداخلي لأفرادها النائمين في كنفها، نقلت العنف إلى مستوى الاصطدام مع الدول الأخرى، ويبقى هذا العنف المسيطر عليه ضمن الدولة الواحدة، كامنا تحت الرماد، حتى ينفجر بأفظع صورة وإطار (راقب تفجيرات العراق وحرب سوريا ومصيبة إيران وحزب الله) كما يعرف ذلك مؤرخو الحروب الأهلية، كما في الحرب الأهلية الأمريكية ـ الإسبانية ـ الروسية أو أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا بعد نهاية القذافي الدموية جدا؟
لقد شاهدنا في رواندا حيث تم مسح 200 ألف إنسان من خريطة الحياة في مدى أسابيع قليلة، أو في سجل العار في البوسنة وكوسوفو؟!.
إن فداء إسماعيل، ومشروعية الأضحية، إعلان ضمني للسلام العالمي، كما أن مظاهرة الحج الكبرى هي قمة السلم في الاجتماع الإنساني؛ فليس هناك من مدينة على وجه البسيطة إلا ومنها حاج.
وكما يجتمع المسلم مع أخيه المسلم في حلقات تكبر بشكل متصاعد، بدءاً من حلقة الحي في المسجد، ومروراً بصلاة أهل البلد الواحد معاً خارج البلدة في صلاة العيد؛ فإن الحج الأكبر هو اللقاء الكوني الأعظم، ولذا ناسبه خطاب عالمي، ومن أهم خطاباته إعلان السلام العالمي.
إن جوهر الحج لا يدركه كثير من المسلمين، الذين يحرصون على تأديته، حيث يجب أن يحقق الحج بهذه المعاني الضخمة، التي كرسها، لتكون ينابيع للشحن الروحي السنوي لكل العالم الإسلامي، الذي هو في غابة فعلية من العنف المدمر.