دورة «الإنسان غير العاقل»
لاحظنا أخيرا، خلال ما يحدث الآن من نزاعات مسلحة في مناطق متعددة من العالم العربي، الهجوم الممنهج على مجموعة من المعالم الأثرية ذات الدلالة الحضارية والعمق التاريخي المهمين. ما يحيلنا على التفكير في مدى عجز الأمم عن فرض الآليات المعمول بها في مجال حماية المآثر أثناء النزاعات المسلحة.
وعلاقة بأصول حماية الممتلكات الثقافية، فإن هذا المفهوم يعتبر، عرفيا، قديما جدا. ذلك أن قداسة المعابد والهياكل كانت واجبة بشكل واضح لدى اليونان، إلا أن الأمر لم يتخذ شكله القانوني إلا في حقب معاصرة، وبالتحديد خلال القرن التاسع عشر. وقد يكون إعلان بروكسل لسنة 1874 أول مادة شبه قانونية أشارت إلى احترام أماكن العبادة والعلوم والفنون. تلته اتفاقيتا لاهاي لسنة 1889 ولسنة 1907، اللتان تم فيهما الحديث بشكل واضح عن «ملكية العدو» التي تجب حمايتها حتى في حالات القصف والحصار. ثم اتفاقيتا جنيف لسنة 1949 التي الحق بها في ما بعد بروتوكولان تتميميان.
غير أن العالم انتبه إلى عدم كفاية هذه الآليات الجزئية وضرورة تعزيز الترسانة القانونية باتفاقية خاصة باحترام الممتلكات الثقافية في حالات النزاع المسلح، ومنه جاءت اتفاقية لاهاي لسنة 1954، التي لم تصادق عليها كل الدول، فجرى تعزيزها من جديد ببروتوكولي جنيف لسنتي 1974 و1977. وتنضاف إلى كل هذه الترسانة الدولية، النداءات الإنسانية التي يتم إطلاقها كلما تعرضت إحدى المعالم التاريخية للنهب والتهريب والتخريب كما حدث مع متحف العراق الوطني خلال التسعينات.
غير أننا اليوم نشهد اعتداء من نوع آخر على المواقع والمباني التاريخية. فالهجمات أصبحت تدميرية بشكل تام وتشي بكثير من الحقد الأعمى على حضارات أصيلة ومتجذرة شاهدة على تاريخ البلدان التي توجد على أرضها. فإذا كانت الاستباحات المعهودة تهدف إلى استغلال هذه الممتلكات الثقافية عبر تهريبها إلى خارج بلدانها وبيعها في المزادات أو عرضها في متاحف كبرى، فإن ما يحدث اليوم من تدمير للمدن والمعابد والهياكل في بلاد سوريا وتنكيل بأعلام البحث الأثري كما حدث مع الباحث خالد الأسعد، هو انزلاق تدريجي نحو سلوكيات الإبادة الكاملة للحضارات الإنسانية. وأنكى ما في الأمر أنه يستند إلى مرجعية تكفيرية خطيرة تدعي تنظيف العالم من الوثنية وتحطيم كل ما لم يكن «خلقه» سماويا.