دماغ أينشتاين
بقلم: خالص جلبي
كان أينشتاين مدخنا، ولم يخطر في باله أن نهايته ستكون بأنورزما بطنية «أم دم = Aneurysma»، حين صارحه طبيبه بعلته. لم تكن تقنيات الأربعينات من القرن العشرين قد وصلت إلى استبدال الشرايين، ولم تتطور جراحة الأوعية الدموية والشرايين الصناعية، إلا في أتون الحرب الكورية من خمسينات القرن الفائت.
حين مات أينشتاين بانفجار الأنورزما، كان طبيبه الخاص «توماس هارفي» ينتظر اللحظة بلهفة؛ فقام بأكبر سرقة في تاريخ الطب، فتح جمجمة أينشتاين وسرق الدماغ المبدع، بدون موافقة الأهل أو إخبارهم، وبقي السر عنده فقط، ولم يصرح به إلا بعد مرور نصف قرن، وحين أفضى بالسر إلى حفيدته إيفلين، رمقته ورفضت أن تأخذ دماغ الجد، فما النفع به؟
كما قرأت يوما على قبر في مسجد بحي الميدان في دمشق:
دفن الجسم بالثرى ليس بالجسم منتفع
إنما النفع بالذي كان بالجسم وارتفع
أصله جوهر نفيس وإلى أصله قد رجع.
كان هدف الدكتور هارفي ـ ولم يكن مختصا بأعصاب الدماغ ـ أن مخ أينشتاين فيه سر العبقرية، لذا قام مع فريق له بقطع الدماغ إلى 240 شريحة، ووزع قسما منها على المخابر العلمية، بدون ذكر من صاحبها، عسى أن يهتدوا إلى سر العبقرية عند الرجل.
حين كان أي مشرح يتلقى العينة، لم يميز فيها شيئا واضحا، باستثناء بعض المناطق القفوية، التي كانت تظهر مزيدا من التجعدات والالتواءات. أما الحجم والوزن فكان دون الطبيعي؛ فأين كان سر العبقرية عند الرجل؟
حين مات الطبيب هارفي عام 2007م تسلم ورثة الطبيب دماغ العبقري، ووضعوه للدراسة في متحف الدواء والصحة عام 2010م.
ولكن قبل كل شيء، لماذا أخذ أينشتاين (بالألمانية تعني حجر واحد) لقب العبقري؟ والجواب أن هناك زوايا مفصلية في العلوم، تحقق قطيعة معرفية مع ما قبلها، وهذا بالضبط ما فعله أينشتاين مع فيزياء (نيوتن) التي سيطرت لقرنين، وقالت بالزمان المطلق والمكان المطلق، ومبدأ حفظ المادة، فجاء أينشتاين بالنظرية النسبية الخاصة ثم العامة، ليحطم هذه المفاهيم المفصلية؛ فبعد أينشتاين ليس ثمة مكان مطلق وزمان مطلق مع السرعة، وحفظ للمادة كما في تحلل الراديوم.
وفي مراجعة بسيطة لعمر الرجل، نجد أنه بين عمر 16 ـ 26 ركز على مفهوم الضوء، وكان يكرر ماذا يحدث لنا لو ركبنا شعاع الشمس؟ ومن مفهوم سرعة الضوء التي ليس بعدها سرعة (299,792,458) كلم/ ثانية فهمنا وقود الشمس، ووصلنا إلى السلاح الذري من خلال علاقة المادة بالطاقة.
وبين عمر 26 ـ 36 ركز الرجل على الجاذبية؛ ففهمنا الثقوب السوداء، وعرفنا فكرة الانفجار العظيم. وبقية حياته كرسها لدمج الطاقات الخمس وقوانين الوجود في منظور موحد، لفهم كل حقيقة فلم يصل إليها.
ويعلق «براين باريل Brain Burrell»، في كتابه «بطاقات من متحف الدماغ»، على موقف الدكتور هارفي، حين وضع يده على الثروة الثمينة في دماغ أينشتاين، أنه كان مأخوذا بهذه العبقرية فخطف الخطفة، وانتزع الدماغ من القحف على أمل فهم الظاهرة من خلال البناء العضوي، ولكنه فشل وابتلع أكثر مما يستطيع هضمه، وعلى الرغم من وعوده المتكررة، أنه سيضع السر على مكان العبقرية، فخسر الرهان ولم يفصح.
ولكن هل العبقرية في البناء المادي كما في الكمبيوتر، أم البرامج داخله؟
وحين يحاول «ميشيو كاكو»، في كتابه «عقول المستقبل»، أن يفهم الظاهرة يعزيها إلى أربعة أسباب بين التركيز النظري؛ فكان مختبره دماغه، والتركيز المديد على ظاهرة بعينها في عشر حجج، بين شعاع الضوء والجاذبية والانفجار العظيم، يضاف إليها الحياة البوهيمية التي كان يعيشها؛ فتمرد على الفيزياء القديمة، ونجح في توليد الجديد، وفي النهاية العصر الذي عاش فيه الرجل؛ فاقتطف خلاصة عصره، ونجح في دمج آراء أكثر من عالم مثل بوانكاريه، ليضرب ضربته التاريخية في توليد قوانين فوق عصره، وهو يذكر أيضا بعظماء مثل ابن خلدون أيضا، الذي توج العصر بخلاصة نظريات من عاصروه وسبقوه.
أما العنصر الرابع فهو شخصية الرجل ودأبه، ولذا فلو قمنا باستنساخه من جديد فخرج، لن يكون أينشتاين الذي نعرفه.
يقول أينشتاين إن كشف الحقيقة مرة واحدة غير كاف؛ فالحقيقة تشبه تمثال الرخام المنصوب في الرمال، والمهدد بالدفن في كل لحظة، ومن يحافظ على لمعانه تحت الشمس هي الأيادي الدؤوبة النشيطة. وكان الرجل شاهدا عمليا على هذه الفكرة؛ فأصبح في الخالدين يحلق اسمه ويصمد عبر العصور.
نافذة:
كشف الحقيقة مرة واحدة غير كاف فالحقيقة تشبه تمثال الرخام المنصوب في الرمال والمهدد بالدفن في كل لحظة