شوف تشوف

الرأي

دقيقة واحدة

 

شامة درشول

 

 

 

 

أحب التنقل بين دول أوروبا عبر القطار، لذلك لم أتردد في قبول اقتراح أصدقاء التقيت بهم في المنتدى العالمي للإعلام بألمانيا، بالسفر من مدينة بون إلى أمستردام عبر القطار والعودة في اليوم نفسه.

اقتنيت تذكرة الذهاب والعودة، تأكدت من موعد الرحلة، كانت تشير للعاشرة ودقيقتين، التحقت بهم في محطة بون، هناك تقدم نحوي سائحان أمريكيان سألاني عن موعد القطار الذاهب إلى مدينة كولن، وعرفت من حديثهما أنهما بدورهما يريدان الذهاب إلى أمستردام.

مازحت أصدقائي أني بت خبيرة بالقطار الأوروبي لكثرة استعمالي له. كان الطقس لطيفا، أنعشته نسمات صباح باردة، سردت عليهم لائحة بالأشياء التي سنقوم بها هناك في ظرف خمس ساعات قبل أن يحل موعد قطار العودة إلى ألمانيا.

وصل القطار في موعده، لا تأخر دقيقة، ولا تقدم أخرى، صعدنا إليه وأكملنا ثرثرتنا إلى أن وجدتني أقف، وأطلب من أصدقائي النزول بسرعة، وحين نزلنا، اكتشفت خطئي وأنه كان علينا النزول في المحطة الموالية، كانت المحطتان تحملان الاسم نفسه، وكان علي أن ألتزم بما كتب في الورقة حول ساعة الوصول لأتفادى الالتباس الذي جعلني أنزل وأنزل معي جمعا من الأصدقاء.

لم يكن أمامنا سوى خيارين، إما أن نعود أدراجنا، ونكتفي بالتجول في مدن ألمانية قريبة، أو أن ننتظر القطار الموالي في محاولة تكاد تكون مستحيلة لركوب قطار أمستردام قبل إغلاق بواباته، فالفارق بين وصول القطار التالي ومغادرة قطار أمستردام كان دقيقة فقط.

كنت مع خيار الاستسلام والعودة أدراجنا، وكان أصدقائي متمسكين بخيار المحاولة إلى آخر دقيقة. وصل القطار الموالي، صعدنا إليه، كانوا هم يتحدثون وكنت أنا صامتة أتذكر مسافرا ألمانيا التقيت به وأنا في طريقي من الدار البيضاء إلى الرباط، في حديثنا تذمر من تأخر القطارات في المغرب، أخبرته أنه ليس عليه أن يتوقع أن يصل القطار في بلد كالمغرب في موعده، وأن الألمان أكثر دقة، لكنه اعترض وقال لي إن السويسريين أكثر دقة.

وصلنا إلى محطة كولن، سمعت أصدقائي يطلبون مني أن أسرع بالنزول، كانت أمامنا سيدة عجوز تكاد تقفل بعكازيها باب الخروج، كنت أعرف أننا نحاول تحقيق المستحيل، لكني لحظتها شعرت بأنه ربما القدر يحاول منعنا، أو منعي بالذات من السفر ذاك اليوم. ترجلت المرأة العجوز، وانطلقنا راكضين، نزلنا الدرج، وبحثنا بسرعة عن البوابة خمسة التي منها سنستقل قطار أمستردام، صعدنا مرة أخرى الدرج، كان طويلا هذه المرة، ومع ذلك صعدنا راكضين، وصلنا إلى القطار، وحين هممنا بالضغط على الزر الأخضر لفتحه، تحرك راحلا عنا، تاركا أصدقائي متذمرين، وأنا أضحك منهم، وفرحة بأني سأعود إلى الفندق.

لكني عدت لوحدي، في الوقت الذي قرروا هم أن ينتظروا قطارا آخر، ويتحملوا مشقة السفر لساعات أطول من تلك التي كان سيقطعها القطار الذي تركنا ورحل. وقبل أن أغادرهم قلت لهم: «أحيانا الدقيقة الواحدة قد تقتل حلما، وأحيانا التأخر الذي نتذمر منه في بلداننا قد يكون نعمة لم نعرفها إلا في ألمانيا».

«الدقيقة الواحدة فعلا قد تقتل»، قد تقتلك أنت، وليس فقط حلمك. حين رحل والدي عن الحياة، سمعتهم يرددون أن والدي كان يمكن إنقاذه لأنه أصيب بغيبوبة، كان مصابا بمرض في القلب جعله يجد صعوبة في التنفس، منعه الطبيب من التدخين لكن والدي أصر على أن يرحل وسيجارته الشقراء بين أصابعه. تحكي أمي أنه كان جالسا إليها وأخي يمزحون، حين توقف عن الحكي، وأمال برأسه على الوسادة، كان أخي وأمي يعتقدان أن والدي يمازحهما، قبل أن يكتشفا أنه في غيبوبة، مضى وقت طويل إلى أن وصلت سيارة الإسعاف، حملت والدي ميتا من المنزل، دقيقة واحدة كانت لتجعله يحمل منه إلى المستشفى ويعود، بدل حمله إلى القبر حيث الذهاب بلا عودة.

 

الدقيقة الواحدة، كانت لتقتلني ذات يوم وأنا في واشنطن. استجبت لدعوة أصدقاء على العشاء، خرجت في ليلة ثلجية باردة وأنا أرتدي معطفا وأسفله قميصا خفيفا، لا أدري لم نسيت يومها أني سأضطر للمشي طويلا، وأن علي أن أتدثر بملابس أكثر دفئا، لم أنتبه للخطأ الفظيع الذي ارتكبته إلا وأنا في طريق العودة إلى المنزل، كان علي أن أستقل «المترو»، ولم أنتبه إلا وأنا أترجل منه معتقدة أني وصلت إلى المحطة التي لا تبعد إلا بأمتار عن منزلي. دقيقة واحدة كلفتني انتظار إحدى عشرة دقيقة في محطة «مترو» غير مغطاة، وفي ليلة وصلت فيها درجة الحرارة لعشرين تحت الصفر، وبملابس خفيفة لا تناسب طقسا قاتلا.

لم يفصلني عن الموت يومها إلا دقيقة، صبرت لعشر دقائق، وحين اقتربت الدقيقة الحادية عشرة كنت أشعر بنفسي أني لم أعد قادرة على المقاومة. كل ما فكرت فيه وقتها أني سألقى حتفي في محطة «مترو» ببلد غريب، وفي ليلة باردة. لم أرد لي هذا المصير، وساءني أن أرحل عن العالم بهذه الطريقة. تذكرت كيف أني كنت أقول لأمي، التي عارضت دوما هجرتي إلى خارج المغرب، أني لا أريد أن أعيش في بلد يعاني فيه الضعفاء كثيرا وهم فوق الأرض، وحين يرحلون يأتي سكير ليتبول على قبرهم، أقول لأمي: «لا أريد أن يتبول على قبري سكير، أريد أن أعيش بكرامة وأنا فوق الأرض، وأن أعيش بكرامة وأنا تحت الأرض»، لكني وقتها شعرت بأن ذاك السكير أكثر رحمة من الموت، غريبة في بلد غريب.

قدم «المترو»، صعدت إليه، كانت دقيقة واحدة هي التي تفصلني بين المحطة التي ركبت منها، والمحطة التي علي النزول فيها، ولم أكن أريد النزول، كنت لا أزال أشعر بجسمي متجمدا، ولا زلت أحتاج للحرارة التي تنفثها المدفأة داخل القطار. وحين نزلت منه ركضت ركضا نحو موقف سيارة «التاكسي»، كنت أعرف أن السائق سيتحجج بأن بضع دقائق تفصلني عن منزلي، وأنه يمكن أن أذهب إليه مشيا، لذلك صعدت سيارة التاكسي بسرعة، وأحكمت إقفال الباب، وقلت له بصوت مرتعش أن يقلني لبيتي لأني أكاد أتجمد من البرد، وحين أوصلني لم يكن لديه جهاز لصرف المال عبر البطاقة البنكية، ولم أكن أحمل معي نقودا، فقال لي إنه يتنازل لي عن الخمسة دولار، وأنه يمكنني أن أعيدها إليه مرة أخرى إن صادفته في موقف سيارات الأجرة.

يومها ركضت مسرعة إلى المصعد الذي حملني إلى شقتي في الطابق الثاني، فتحت الباب بيدين مرتعشتين، دخلت، نزعت ملابسي، وفتحت المدفأة، كانت شقتي تتوفر على تدفئة طبيعية لذلك لم أشغلها يوما حتى في أشد الليالي بردا، لكني يومها أردت الانتقام من البرد الذي كان يودي بحياتي ويحولني لمجرد جثة ملقاة على رصيف «مترو» ببلد غريب في ليلة باردة، وضعت التدفئة في أعلى درجة حرارة، وجلست على الأرض، وأطلقت العنان لدموعي، لم أكن أعرف إن كنت أبكي لأني لم أمت غريبة، أو لأن الدفء كان يفكك أجزاء جسدي المتجمدة، لكني ليلتها عرفت أن دقيقة واحدة قد تقتلك.

في تجربتي مع القطار الألماني ورحلتي إلى أمستردام التي انتهت على رصيف محطة ألمانية، تعلمت درسا جديدا، وهو أن الدقيقة قد تقتل حلمك، لكن هذا الحلم قد يكون هو القاتل الحقيقي، فقد عاد أصدقائي متعبين، مرضى بسبب مشقة السفر، في الوقت الذي آثرت فيه العودة إلى غرفتي رافعة شعار «دقيقة واحدة قد تقتلك، وقد تحييك».

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى