شوف تشوف

الرأي

دعاء

 

بريكي

 

الشوارع ليلا تغير وجهها، وعابريها، نبرتها وألوانها. ترتدي أثوابا براقة وتصبح أكثر جاذبية. تغريني الحياة ليلا وتثيرني أسرارها، رغبة باكتشاف ما يحصل تجعلني أرتاد الشوارع الكبرى ليلا أراقب الوجوه وأتملى الأضواء. أقف على حافة شارع عريض، لا أنتظر أحدا ولا أطمح لشيء. تتدفق سيارات راقية رباعية الدفع تحمل بداخلها رجالا بعيون جاحظة، يغزوهم الشيب واليأس، فيلحقون بالنساء كأطفال رضع حرموا الحنان. يغمزون ويبتسمون ويشيرون بأيديهم وحواجبهم وأضواء سياراتهم. يعيدون الكرة مرات ومرات، بحث دؤوب ينتهي دائما بالخيبة.

أهم بمحاولة مشي علني أصالح فيها مفاصلي المتشنجة، فتقترب مني سيارة تقودها أنثى بوجه عاث فيه اختصاصي تجميل فسادا. يترجل عن جوارها رجل حليق الوجه والرأس ويخاطبني بود بالغ مقترحا علي عشاء رفقة رجل يحمل جنسية بلد نفطي. ينقبض قلبي ويظهر الهلع على ملامح وجهي وتتسابق الكلمات داخل حلقي فتعلق هناك كلها تاركة فمي فارغا مشرعا ككهف. ترى الأنثى علامات الصدمة تغزوني فتفهم أني مغفلة لا طائل من ورائي، تستعجل الرجل الوسيط الذي شرع في اعتذاراته الممزوجة برائحة النبيذ. رائحة النبيذ على الرجل الخطأ أشبه ببالوعة صرف صحي لمدينة مكتظة. غثيان يغشاني فيجبرني على العودة لسيارتي، وتبوء كل محاولات استنشاق النسيم بالفشل.

عينان خضراوان تطلان علي، طفلة في هيئة قطة جميلة تقفز حولي. كتلة من البياض مزج بوردي لطيف، دعاء. أو ما ادعت أنه اسمها. تمد يدا صغيرة نحوي وتسألني بعض المال، أتسمر أمام هذا الجمال المدهش، مخلوق نوراني بديع. تتكلم كثيرا وتحكي قصصا متداخلة، أم مريضة بالضغط الدموي، أب محكوم بأربع سنوات سجنا نافذا. إخوة صغار وبيت بعيد بمدينة سلا. أطلب منها أن تتوقف عن الكلام، فتشرع بالبكاء. لم تبكين؟ فلا ترد. ربما كان يجب أن أسألها لم لا تبكين؟

تأخذ الدراهم التي وضعتها داخل راحتها وتجري في اتجاه سيارة أخرى، يد تدس الدراهم في جيبها وأخرى تمسح المخاط المختلط بالدموع استعدادا لمواجهة أخرى.

ألاحقها بعيني وقلبي، أي حياة هذه؟ وأية حكمة تلك؟ طفلة أخرى على جانب الطريق تلتهم مثلجاتها وتراقب المشهد بسخرية، تتقدم نحوي وتهمس لي: دعاء كاذبة لا تصدقي شيئا مما تقول. أهم بالجواب فتقاطعني، إنها ابنة خالتي وكل كلامها ودموعها محض كيد زائف، كلما حل الليل ولم تنجح في إكمال المبلغ المنوط بها جمعه شرعت في مسرحيتها. والدها ليس مسجونا وأمها ليست مريضة. هي تبكي فقط بدون سبب. وأنتِ؟ أسألها.

أنا لا أبكي، أكسب مالي دون دموع، أمي توعدتني بعقاب شنيع إن رأت دموعي تنساب في الشارع.

ما اسم أمك؟

غزلان. تجيب بعزة نفس وكبرياء تفتقده نساء بلد بأكمله.

تخيفني الحياة، وترعبني أقدارها. شرسة كامرأة سُرقت أنوثتها. تبلغ بالبشر قاعا لا قرار له، ثم ترفعهم كما يفعل الموج الهادر بمركب فقير. أحمل أعباء الشوارع وأعود من حيث أتيت، وردة الجزائرية تتوعد حبيبها بالهجر الكبير والبعد المحتوم ودعاء تجلس بين أضلعي تضرب برمشها الأسود على أوتاره المشدودة فتغني إلى جانب وردة لحن الضياع. تسكنني العيون الخضراء ويبعدني عنها العجز.

 

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى