دستور جديد لرئيس جديد في الجزائر
ناصر جابي
الشاذلي بن جديد كان الرئيس الوحيد الذي تأخر حوالي عشر سنوات كاملة – 1979 /1989- قبل أن ينطلق في تغيير الدستور، الذي وجده من وقت بومدين، عند وصوله إلى الحكم .عكس كل رؤساء الجزائر الآخرين الذين كان تغيير الدستور على رأس أولياتهم السياسية، مباشرة بعد الوصول إلى الحكم. كما هو حال الرئيس الحالي عبد المحيد تبون. ليكون الشاذلي الرئيس- العسكري- الوحيد الذي حاول التجديد فعلا على هذا المستوى، لدرجة أن الكثير من الجزائريين ما زالوا يعتبرون دستور 23 فبراير 1989 من أحسن دساتيرهم حتى الآن، والأكثر تعبيرا عن روح تلك المرحلة السياسية، التي عرفت حضور حس إصلاحي داخل أروقة السلطة، وليس داخل المجتمع فقط، ونخبه السياسية والفكرية في تلك الفترة.
دستور سمح للجزائر بالدخول إلى مرحلة التعددية السياسية، واقتصاد السوق، وإنجاز القطيعة مع التسيير الأحادي الذي ميز مرحلة ما بعد الاستقلال لغاية 1989. رغم هذا الجديد الذي جاء به دستور الشاذلي
ـ نعم الشاذلي كشخص ورجل سياسي، مادام لكل رئيس دستور ينسب له ـ فشل في الاستمرار والصمود كحكم، يتم الرجوع له في أول أزمة عاشتها الجزائر، مباشرة بعد المصادقة على هذا الدستور، بداية من التسعينيات، كونت التمهيد الفعلي لدخول أتون الحرب الأهلية في 1992، بدل الديمقراطية وحقوق الإنسان، التي وعد بها المواطنون.
فقد أنتجت الجزائر الكثير من الدساتير، بالتعديلات العديدة التي أدخلت عليها، بدون أن تتحول هذه الوثيقة القانونية الأم، إلى حكم يتم الرجوع له عند الأزمات. فقد كان التعليق هو مصير أول دستور للجزائر المستقلة خلال حكم الرئيس بن بله، الذي لم يعرف عنه خلال حكمه القصير، احتراما كبيرا لهذه الوثيقة القانونية، ولا للمؤسسات التي تولدت عنها. الشيء نفسه الذي قام به الرئيس بومدين وهو يعلق الدستور، بعد انقلابه العسكري في 1965 لغاية 1976. السنة التي أعلن فيها عن دستور أحادي لم ينتج مؤسسات للحكم، بقدر ما أنتج سيطرة سياسية لشخصه كزعيم سياسي.
استمر الحال نفسه مع الجنرال ليامين زروال، الذي كان له الفضل كرئيس في اقتراح دستور يحدد العهدات الرئاسية ـ عهدتان فقط ـ بشكل واضح لا غبار عليه داخل نخبة سياسية رسمية، سيبقى همها الأوحد كيفية البقاء على رأس السلطة بعد الوصول إليها، ليتكفل الرئيس المدني بوتفليقة، بإعادة النظر في هذا الإنجاز المهم في 2008 بفتح العهدات الرئاسية، فاتحا بذلك باب جهنم على البلد، وعلى مساره السياسي كرجل، انتهى بشكل مأساوي في 2019 وهو يطالب بعهدة خامسة له، بعد عشرين سنة من الحكم.
قد يكون من المفيد أن نعرف لماذا يصر كل رئيس جزائري جديد على دستور خاص به، كما يحدث هذه الأيام مع الرئيس تبون، الذي تعهد أثناء حملته الانتخابية، بتعديل الدستور قبل أن يصل إلى الحكم، في ظرف مضطرب سياسيا، بعد حراك شعبي قوي دام لأكثر من سنة، عبر عن رفضه الشديد للأوضاع السياسية التي طالب بالقطيعة معها، ومع كل النظام السياسي الرسمي، بممارساته ومؤسساته ونخبه. إصرار على تغيير الدستور قد نجد بداية تفسير له في تلك الثقافة السياسية الشكلية، التي تميز النخبة السياسية في الجزائر، التي تهتم بالنص وتهمل بشكل واضح روح النص ومقاصده. كما فعل كل رؤساء الجزائر الذين يبدو عليهم، في سلوكهم السياسي، تشبث واضح بالقراءة النصية قد يكون من الأفيد، ربما البحث لها، عن تفسير في مجال التحليل النفسي الذي يهتم بالغامض وغير المباح به عند الإنسان، وليس المعلن والمصرح به. تشبث بالنصية يمكن فهمه أكثر، إذا أضفنا له تلك النزعة التي لوحظت على المُشرع الجزائري وكاتب الدستور، الذي يريد أن يحل كل مشاكله السياسية عن طريق النص القانوني. حالة أوصلت البلد إلى «تخمة قانونية»، يمكن ملاحظتها بكل سهولة في التعديلات المقترحة في دستور تبون الأخيرة، لنكون أمام «دستور ثرثار»، لا يقول شيئا مفيدا ومحددا، يتكلم عن كل شيء، ليهمل الأساسي فيها، حتى إن تكلم عنها. نص دستوري طويل، يدخل في تفاصيل الأمور، التي كان يمكن أن تترك إلى مستويات أخرى، ليست قانونية بالضرورة كالمستوى الاجتماعي والثقافي، يمكن تقنينها لاحقا، بعد ممارسة فعلية على أرض الواقع. ليكون الدستور أكثر تعبيرا عن ثقافة المجتمع وتاريخه الفعلي، بدل هذه النصوص العامة التي عادة ما يتكفل بتحريرها بعض القانونيين – الكتبة، الذين تخصصوا في عرض خدماتهم على كل الأنظمة السياسية، كخبراء وليس مواطنين معنيين بحال مجتمعاتهم الغائب الأكبر عن عملية إنتاج هذا النص القانوني، الذي يبقى في الغالب، من دون روح، غير قادر على التعبير عن هموم وطموحات الناس، في مجتمع عرف الكثير من التحولات، من كل نوع.
نص قانوني لم يستطع الصمود في وجه أغلبية الأزمات التي عاشها النظام السياسي، التي يتم حلها في الغالب خارج المؤسسات، التي يتكلم عنها هذا الدستور وبواسطة وسائل غير دستورية، حتى إن تم التشبث المرضي كل مرة بنصية القانون، وصلت إلى حد إيجاد تبريرات دستورية للانقلابات العسكرية والسياسية، المعلن منها والمستتر. إصرار الرئيس الجزائري على دستوره الخاص به، الذي يمكن فهمه من زاوية أخرى كحيلة قانونية ضرورية للتشبث بالحكم الفردي. الهدف الحقيقي لهذا الدستور المطلوب التمويه داخله، والإطناب حول مؤسساته وتقسيم السلطات بينها، وغيرها من شروط كتابة النص التي يعرف الجميع أنها حيل لغوية، لا أثر لها على واقع الأرض، كما جاء في تقرير التنمية الإنسانية العربية لسنة 2004 التي لخصت حالنا في المنطقة العربية – وليس الجزائر فقط – بهذه الفكرة الواضحة والدقيقة، وهي تتطرق إلى وضع الحريات، إن ما تمنحه وتتكلم عنه الدساتير من حقوق وحريات في بلداننا، عادة ما يقلص منه النص القانوني، بشكل كبير، ويهدر كليا على أرض الممارسة اليومية عندما يصل إلى حياة الناس.