دروس سنة ضياع
تحول عقلي إلى ماكينة لا تتوقف عن الحركة.. أفكر في كل شيء.. ولا شيء.. أفكر في جارنا «براهيم» وزوجته «خديجة».. حياتها كلها ضحك في ضحك.. وزوجها تتشابه عنده الأيام ولا يسأم من لعب الورق والتدخين.. وولدهما «عبد الرزاق» يبيع المخدرات ليشرب الخمر.. و«حليمة» تبيع شرفها طمعا في عيش رغيد وحياة راقية.. أفكر أيضا في أختي «زينب» التي أنهكتها ماكينة الخياطة.. توقفت عن الدراسة بغير إرادتها لترعى البقرات في البادية.. فكرت أيضا في الوزير الذي يسرق ماء الصنبور.. وظلم «الشيخ».. واعتداء الدرك على والدي.. وتحرشات القاضي به.. هذا الذي سجن والدي ظلما..
أحسست بضياع خطير.. تهت وسط زحمة الكاريان.. وجدت نفسي وحيدا في مفترق الطرق.. عندما غادرت الصف الإعدادي انتابني ندم أشد.. خصوصا وأنا ألتقي بزملائي في الصباح، وهم يحملون محفظاتهم على ظهورهم ويتوجهون إلى الإعدادية التي كانت تبعد عن الكاريان بحوالي أربعة كيلومترات.. أهيم على وجهي تائها لا أدري إلى أين أسير.. أثْقَلَ علي جسدي ورأسي.. أشعر بثِقْل كل شيء.. أنظر إلى السماء وكأنها ستسقط على رأسي.. تهت في المدينة كما تاه بنو إسرائيل في الصحراء..
الوالدة تتدخل مرة أخرى لتنتشلني من حياة الجحيم هاته..
اقترحت علي أن أتعلم حرفة الخياطة.. كان بجوارنا خياط اسمه «علال».. أقسم لوالدتي بأغلظ الأيمان أنه سيبذل كل ما في جهده لتعليمي أسرار هذه المهنة.. تحمست كثيرا للفكرة.. في الواقع كنت أبحث عن أي شيء يخرجني من هذه الدوامة التي أدخلت نفسي إليها بكل طواعية..
قلت في نفسي: سأعتبر هذه السنة سنة بيضاء.. وفي العام المقبل سأتابع دراستي.. وفي انتظار ذلك لا بأس أن أتسلى بعض الشيء عند الخياط وأشتغل عنده إلى أجل مسمّى عوض الجلوس في الدار والتسكع في الشوارع.. بهذه الحيلة استطعت أن أتجاوز الأزمة الخانقة التي حشرت فيها نفسي، فكادت أن تعصف بعقلي لولا عناية الله تعالى..
مكثت في حانوت الخياط تقريبا ثمانية أشهر.. لم أتعلم منه شيئا سوى «كيِّ» الملابس بالمكواة وخياطة بعض الأشياء التافهة.. قهر إرادتي ببرم الخيوط لاستعمالها في حياكة ملابس النساء.. أجلس ساعات طوال في الشمس وأنا أمسك بيدي قصبة صغيرة ومغزلا خشبيا أفتل عليهما حبال الحرير.. أبرم له الخيوط في الصباح وأساعده على خياطة الجلابيب والقفاطين في المساء مثل سجين حكم عليه بالأعمال الشاقة.. تأكدت من أن لا خلاص لي من هذا العذاب غير استئناف دراساتي الإعدادية.. ولحسن حظي أنه ما زال أمامي فرصة لاستدراك ما فاتني منها العام المقبل..
تعلمت أشياء لا تقدر بثمن عند الخياط «علال».. يشبه تماما الفقيه «بوشتى».. له ولع شديد بالنساء وسعي حثيث إلى اصطيادهن.. ذئب في صورة خياط.. ما رأيته بأم عيني جعلني أسير في الأرض حيران.. فقدت الثقة في كل شيء.. كان حانوت الخياط لا يتجاوز خمسة أمتار مربعة.. قسَّمَهُ إلى طابق علوي وآخر سفلي.. لم يكن عقلي البدوي يستوعب في بداية الأمر أن الطابق العلوي للحانوت كان يستغله الخياط لأشياء أخرى.. بعض النسوة لا يتجاوزن الطابق السفلي.. وأخريات كانت لهن حظوة الصعود إلى الأعلى. .
يقول لي: إن من أصول المهنة أن يأخذ مقاسات أجساد النساء في المكان العلوي.. كنت أصدق ذلك مثل طفل أبله أن على المرأة أن تتعرى تماما ليأخذ لها الخياط اللعين مقاس جسدها..
انتبهت، أخيرا، إلى أن طابق «الخياط» يشبه تماما غرفة «عمي براهيم» وزاوية «الفقيه بوشتى»..
هل هناك عذاب أقوى من هذا على نفسية طفل بريء قادم من حياة البدو.. يقول ربي في كتابه العزيز: (والفتنة أكبر من القتل)..
هربت من سطوة «المخزن» في البادية، فوقعت تحت قهر الشهوات في المدينة.. كان قدري مرة أخرى أن أطلع على الأسرار الخفية للكاريان.. أسرار النساء بطبيعة الحال.. ثمانية أشهر عند الخياط كانت كافية لأعرف كل شيء عنهن.. كن يطأطئن رؤوسهن عندما ألتقي معهن في الأزقة الضيقة.. أشعر بالقوة اتجاههن.. يحسسن بالضعف نحوي خوفا من أن أفضحهن.. أسير مرفوع الرأس.. مزهو النفس وسط نساء الكاريان.. كنت أخاف من المدينة.. أما الآن وبعد أن عرفت بعض أسرارها بدأت تخاف مني..
علمت منذ الصغر أن للمعلومة سلطانا لا يقهر.. وما تعلمته من مدرسة «علال» أفضل بكثير مما تعلمته من التعليم العمومي..
كنت أتساءل دائما ما سر إعجاب النساء بهذا الخياط النزق؟ رجل قصير القامة.. نحيل الجسم.. كثير العرق.. غائر العينين.. ثرثار إلى أقصى حد.. أكره الجلوس بجانبه لشدة العرق المنبعث من جسده.. كان يشبه طباع «بوشتى» إلى حد بعيد.. كان في عقلهما امرأة.. أفسد هذا الخياط فطرتي ونظرتي إلى الجنس اللطيف..كلما نظرت إلى المرأة تتبادر إلى ذهني صورة كل من الفقيه والخياط.. حتى عندما فكرت في الزواج في ما بعد سألت خطيبتي:
ـ هل ذهبت مرة في حياتك إلى الفقيه، أو الخياط؟
أجابتني وعلامات الدهشة بادية على وجهها:
ـ لم أفهم قصدك؟
قلت لها: لا شيء.. مجرد سؤال بليد.. لا عليك لا تهتمي للأمر.. (لم تفهم شيئا بطبيعة الحال).
هجرت حانوت الخياط النتن بعد أن كابدت فيه شهورا من الأعمال الشاقة.. تعلمت فيه شيئا واحدا هو أن الخيانة طبع متأصل في بني آدم.. مرت شهور لم أتعلم فيها كيف تقبض أناملي إبرة صغيرة وتغرسها في حاشية قفطان، أو جلابة.. طلقت الخياطة وأنا غير آسف عليها..
وصلت إلى نتيجة واحدة بعد هذه المحنة مع «علال»، هي أنه لا مناص من الذهاب إلى المدرسة للانفلات من هذا الوكر الموبوء.. ذلك ما كان.. في العام المقبل التحقت بالصف الإعدادي وأنا كلي لهفة إلى الدراسة بعدما عانيت كثيرا في دكان الخياط.. شعرت أني كبرت بسنوات عن عمري الحقيقي.. نضجت قبل الأوان.. قضيت أربع سنوات في الإعدادية.. تميزت مرة أخرى فيها، لكن هذه المرة بدأت أكتشف موهبة جديدة عندي وهي الكتابة.. أول شيء كتبته في حياتي هو رسالة غرام إلى إحدى التلميذات.. أظن أني كنت في الثانية إعدادي.. أول مرة أشعر فيها بانجذاب قوي نحو الجنس الآخر.. ربما «عمي براهيم» والخياط «علال» هما من أجَّجا نار الفتنة في جوانحي وأنا ما زلت يافعا..
أذكر أني مرضت من وقع هذا الحب مدة ثلاثة أيام.. لم أخرج من الدار.. فقدت شهية الطعام.. وشهية كل شيء.. وضعت المذياع بجانب الوسادة ودخلت في متاهة الأحلام.. أحلام اليقظة التي لا تنقطع أبدا.. انقطعت عن الدراسة مدة أسبوع تقريبا.. قررت في النهاية أن أكتب رسالة إلى هذه التلميذة حتى أضع حدا لهذا المرض القاتل.. ترددت كثيرا لكن في نهاية المطاف سلمتها رسالة الغرام، فما لبثت أن مزقتها أمام ناظري ورمتها في وجهي وفي وجه الرياح التي عبثت بها دون رحمة.. أصبت بالذهول.. ومسَّ هذا الحدث كبريائي..
استجمعت قواي ورجعت إلى «البراكة» لا ألوي على شيء.. فغلَبَ كبريائي حبي.. وانتصرت عزة النفس على شهوتها.. قلت عندها في نفسي: لا يجتمع ذلٌّ وحب.. وبقيت أعيش على هذا المبدأ إلى يومنا هذا.. لا أرضى أبدا برغبة وراءها عذاب.. ولا بصداقة وراءها انحناء.. ولا بعيش يحط من الكرامة.. خرجت بخلاصة: أن الحب مرض خطير..
هذا هو الحدث الأهم في حياتي الإعدادية.. لذلك ولأرد على إهانة التلميذة «المحبوبة» كتبت ـ لأول مرة في حياتي ـ شعرا أهجوها فيه.. انتشرت القصيدة بين التلاميذ.. لكنهم لم يعرفوا من المقصود من الذم.. كان هجوا فاحشا.. تفتحت عندي على إثر ذلك قريحة الشعر سنوات عديدة.. ثم انقطع عني «شيطانه» بصورة فجائية عندما دخلت «دين الإخوان»..