صدق برتراند راسل عندما قال: «كل النعم التي نعيشها الآن هي بفضل جاليليو»، لذلك كانت محاكمته أهم سطر في كتاب «تاريخ العلم». المحاكمة كانت على كتابه «الحوار»، والتهمة كانت الترويج لنظرية كوبرنيكوس بأن الشمس هي المركز، وأن الأرض هي التي تدور حولها وليس العكس.
ورغم أن كتاب جاليليو كان عبارة عن حوار بين النظامين، كوبرنيكوس وبطليموس، فقد راعى فيه التوازن بين الرأيين، واختبأ خلف السطور ولم يعلن رأيه صراحة، بل جعل النظريتين أو النظامين أمام القارئ وهو الذي يختار وينحاز تبعا لاقتناعه وطبقا لقوة حجة صاحب النظرية.
وهنا الدرس الأول المستفاد من تلك المحاكمة، فالكهنة الذين كانوا على المنصة، ورجال الدين الذين حاصروه بالاتهامات والذين ما زال لهم أحفاد عندنا يحاصروننا، أحفاد غيروا الرداء فقط، ولكنهم لم يغيروا الفكر، الدرس هو أنهم سيتربصون بك ويفتشون في نيتك حتى لو كنت محايدا، فهم لا يريدون الرأي الآخر وينزعجون من مجرد طرحه، ولأن فكرتهم هشة ومنطقهم متهافت فهم يخافون ويرتعبون من المنطق العلمي، لذلك نجد حربا ضروسا حتى في علوم الدين ضد كل من يطرح آراء الفقهاء كلها ولا ينحاز لرأي محدد مسبقا.
الدرس الثاني هو اعتبار العلم خصما للدين، مكاسبه هي انتقاص من الدين، فقد هوجم جاليليو في تلك المحاكمة بضراوة على تلك النقطة، واعتبروه متعاليا عليهم بالعلم الذي يملكه، فالنص المقدس أو بالأصح تفسيرهم للنص المقدس يتماشى مع بطليموس وأرسطو، وهو التفسير المعتمد من الكنيسة آنذاك، لأن مركزية الأرض تعني مركزية الإنسان.
ولن يسمح لجاليليو أن يخدش كرامة تلك المركزية الإنسانية، صدمهم جاليليو عندما أثبت لهم أن البديهي عندهم أو ما يتصورونه بديهيا ليس هو على الدوام الحقيقي والصادق، فالبديهي عندهم هو أن الجسم الأثقل يهبط أسرع، لكن بالتجربة أثبت لهم جاليليو كذب وتهافت بديهيتهم.
وكان الفيصل هو التجربة العلمية التي صارت عدوة لهم، تعريهم وتكشف خرافاتهم، قال لهم جاليليو المؤمن والذي لم يكن ملحدا، العلم عندي هو أقرب الطرق لحب الله ومعرفته، لكنهم كانوا يكرهون جاليليو ليس بسبب العلم، ولكن بسبب أنه سيسحب البساط من تحت البيزنس الديني ويغلق بازاراتهم التي يبيعون فيها فدادين الجنة للمخدوعين.
الدرس الثالث كان مفاجأة، فقد كان البابا في روما مؤيدا لرأي جاليليو، وهو الذي نصحه بتقديم الرأيين وعدم الإعلان عن نفسه، ووعده بأن يحميه ويدعمه، ولكن كل هذا كان في الغرف المغلقة، وعندما خرج إلى النور، خذله البابا، وتم تسليمه إلى السجن، وإجباره على إنكار فعلته والاعتذار للكنيسة، ولكن الزمن أنصف جاليليو، ووقف البابا المختلف بعد قرون والذي غيرته وشكلته الحداثة العلمية الجديدة، وقف أمام الدنيا ليعتذر للعالم العجوز الذي أهين وضاع بصره ومرغت سمعته في التراب.
خالد منتصر