درجة الصفر في السياسة
سعيد الباز
قد لا يكون استعمال مفهوم درجة الصفر المستعار من العزيز رولان بارت له نفس القصد، لكنه سيكون من المفيد اختباره في الحقل السياسي.
كان اليونانيون مبتكرو أول نظام ديموقراطي حريصين على البحث في المجال السياسي، فأرسطو مثلا أعلى من شأن السياسة حتى أنه أفرد لها كتابا «في السياسة» على غرار معلمه أفلاطون في كتابه «الجمهورية الفاضلة»، مبينا وظيفتها الأساسية في جلب الخير وتنظيم العلاقات بين الأفراد وكل ما يتعلق بالمواطنة داخل المدينة. لهذه الأسباب كانت السياسة محور انشغال هؤلاء الفلاسفة، فعندما اهتموا بالخطابة كان ذلك من أجل إبراز دورها في الخطاب السياسي، خاصة في ساحة الأغورا التي شكلت المكان العمومي الذي يلتقي فيه الأثينيون لمناقشة قضاياهم وإصدار قرارات بشأنها، ومن أجلها أيضا نشأ لديهم علم المنطق للبحث في مناهج الفكر وطرق الاستدلال السليمة. ومنذ هذه الفترة التي تأسست فيها مكونات المعرفة الإنسانية، ظلت السياسة حتى اليوم الشغل الشاغل للإنسان.
فعلى مستوى الخطابة وعلاقتها بالسياسة، نجدها تلعب دورا مهما في توجيه الوقائع التاريخية وإحداث التأثير المناسب في الجماهير إما بعبارة معينة أو أسلوب ما، يكون له سحر طاغٍ ومؤثر، فالزعيم مارتن لوثر كينغ أثناء مسيرته إلى واشنطن للمطالبة بالحقوق المدنية للأمريكيين من أصول إفريقية، عند إلقائه لخطابه المنتظر منه أن يشعل نار الحركة في أمريكا برمتها لم يكن له تأثير في البداية، فإذا بالمغنية ماهاليا جاكسون تصيح خلف المنصة «حدثهم عن الحلم يا مارتن»، مضت دقائق دون تغيير في نبرته، فأعادت الطلب «الحلم يا مارتن» عندها انبرى مارتن لوثر كينغ وهو يصرخ بأعلى صوته «يساورني حلم» يكررها عدة مرات، لتندفع منه العبارات مثل حمم البركان جعلت من خطبته هذه أعظم الخطب السياسية في تاريخ أمريكا، واعتبرت عاملا حاسما في نجاح حركة المطالبة بالحقوق المدنية.
الأمر نفسه قام به الرئيس الأمريكي جون كينيدي عند زيارته إلى جدار برلين، وبنصيحة من أخيه روبرت استبدل جملته الشهيرة من الإنجليزية إلى الألمانية «أنا مواطن برليني»، التي أطلقت موجة من الحماس لدى الجمهور وتحولت بسرعة إلى شعار سياسي تم توظيفه في الحرب الباردة وصراعاتها القوية.
اليوم يبدو هذا البعد المهم في الخطاب السياسي منعدما أو قليل الحضور، فالرئيس الأمريكي دونالد ترامب يكاد يكتفي بتغريداته في موقع «تويتر» ولا يبدو في المدى القريب أي تغيير. في بريطانيا التي تعاني من أزمة البريكسيت، حيث يبدو الخروج مكلفا ورئيسة الوزراء، تيريزا ماي، مجبرة على التفاوض مع عدة أطراف داخل مهلة ضيقة.. مع الاتحاد الأوربي ومع المعارضة داخل حزبها ومع جارتها إيرلندا.. لذلك فهي تكتفي بالبيانات المقتضبة والاجتماعات المغلقة، دون أن تمتلك خطة واضحة ومعلنة. في فرنسا الرئيس مانويل ماكرون أمام معضلة حقيقية، هو الذي أتى إلى الرئاسة عبر تجمع كبير من هيئات سياسية هجينة لا جامع بينها سوى الوصول إلى سدة الحكم، ما شكل ضربة قوية للمؤسسات الحزبية التقليدية الفرنسية، وطموحا قويا للقيام بإصلاحات جذرية أشبه بولادة قيصرية للنظام الاقتصادي والاجتماعي، ستؤدي فاتورتها الطبقة الوسطى والفقيرة على حد سواء، ما أخرج إلى النور أصحاب السترات الصفراء التي لا تشكل ضغطا وتهديدا لرئاسته فحسب، بل تطرح النقاش مجددا على ضرورة إعادة النظر في الجمهورية الخامسة بعد أن استنفدت نفسها، فآخر رئيسين نيكولا ساركوزي في اليمين وفرانسوا هولاند في اليسار لم يستطيعا تجاوز عتبة فترة الرئاسة الواحدة. هكذا يجد ماكرون نفسه محاصرا ما بين جولات الحوار الوطني العقيمة والاحتجاجات الأسبوعية، دون أي خطة بديلة.
فهل دخلنا إلى عصر اختفت فيه السياسة بكل عناصرها الخلاقة، من خيال سياسي وخطاب مشع ووهاج؟ وباختصار: هل نعيش اليوم درجة الصفر في السياسة؟