دخول الدين الجديد 20
المسجد هو المكان الوحيد المضيء داخل محيط موبوء.. هكذا الحياة بصفة عامة، لا بد أن تبحث فيها عن نقطة مضيئة تبعث فيك الأمل من جديد.. وقد يشع نورها في يوم من الأيام على الجميع..
ظننت في بداية قدومنا إلى «المدينة» أن هذا العالم كله شر ومجون وخلاعة.. شباب نخرت أجسادهم السيجارة والحشيش.. وشيوخ منهم من سجنه لعب الورق والضامة.. ومنهم من أتعبه همُّ الرزق والعمل.. ومنهم من اختار الاعتكاف في المسجد الصغير.. ونساء خائنات إلا من طالتهن عناية الله..
حسبت الكاريان كله شر، إلا أن دخولي إلى المسجد غير نظرتي هاته.. اعتقدت أن أغلب الناس على شاكلة «الشريف دحمان» و«الفقيه بوشتى» و«الشيخ ذو اللحية البيضاء» و«شيخ المخزن» و«الوزير السارق» و«الدركي المزور» و«القاضي الظالم» والخياط «علال»… لكن في المسجد وجدت أناسا من نوع خاص سترتبط حياتي بهم في ما بعد.. كأني اكتشفت عالما من خيال لا ينتهي..
وجدت «دينا» جديدا في «المدينة» ما وجدنا عليه آباءنا في البادية..
الناس في الكاريان لا يصلون مثل أهل البدو.. ولا يقرؤون القرآن مثلهم.. ولا يذكرون الله كما يذكرون.. ولا يلبسون مثلما يلبسون.. أعجبت بــ«الدين» الجديد وبأهله.. دخلت المسجد في وقت كنت أشعر فيه بالفشل والضياع والتشرد.. لذت في نهاية المطاف بمكان آمن وهادئ.. فررت من «جحيم» الخياط إلى جنة المسجد.. هربت مثل الحصان الجامح من «فتنة حليمة».. كدت أن أسقط في «فخاخ» لهوها.. تخلصت نهائيا من «حشيشة» عبد الرزاق.. كاد عالم الإدمان أن يعبث بصوابي…
دخلت أول مرة المسجد، فوجدته أوسع من «براكتنا» قليلا وأضيق بكثير من منزل جارتنا «خديجة».. فضاء لا شيء مميز فيه.. فراشه مصنوع من «الدربالة» التي تخيطها أمي من الملابس البالية.. باستثناء محراب الإمام، فقد زُيّن بزربية مزركشة.. أما جدرانه فبهتت صباغتها من كثرة الاحتكاك بها.. وعلت المكان بعض النوافذ التي يدخل منها الريح من كل جانب.. حرارته شديدة في الصيف.. وبارد جدا في الشتاء..
تعمدت أن أصلي أول صلاة إلى جانب جارنا «أبو أيمن».. شعرت بالخجل في بداية الأمر.. عندما انتهينا من الصلاة عانقني عناقا حارا وسلم علي، كأنه لقيني لأول مرة، مع أني سكنت بجوار أمه مدة طويلة.. قدمني إلى بعض الملتحين الشباب.. كنت أعرفهم واحدا واحدا.. لكني اليوم شعرت أني ألتقي بهم لأول مرة.. ضمني كل واحد منهم ضمة قوية إلى فؤاده.. أحسست بدفء صدورهم ومداعبة لحاهم لوجهي الناعم..
خطفني «أبو أيمن» بقوة من حيرة قاتلة.. وفكر مشتت.. وضياع في الحياة.. وانقطاع عن الدراسة.. وقلب يريد أن يَفْجُرَ.. وجوارح تكاد تنفلت مني وترتمي في أحضان «الهوى».. أخرجني من عالم الظلام إلى عالم طهراني.. أو هكذا اعتقدت في البداية.. بت لا أجد السكينة إلا في بيت الله وبجواره..
رجعت إلى المنزل بعد أول صلاة أديتها جماعة منشرح السريرة.. متلألئ الوجه.. شعرت أن مشيتي تبدلت.. وأن روحي أصبحت خفيفة كالظل.. لاحظت والدتي هذا التغيير في أول الأمر.. لم تتحدث معي في الموضوع.. قلت لأبي أن يوقظني لأداء صلاة الفجر.. لم يهتم لهذا النداء الإيماني.. لم يعد يلقي بالا لأي شيء في الحياة، بعد أن باع أرض أجداده واستقر في «المدينة».. لا يفتأ يذكر قصة القاضي والشيخ والوزير.. كل أهالي الكاريان سمعوا بحكايته.. استيقظت قبل أن يقوم الوالد من فراشه.. توضأت بالماء البارد وتفننت في ذلك.. وكذلك يفعل كل مبتدئ في طريق «التزامه» الديني.. يعيد الوضوء أكثر من مرة.. ويتشدد في الاستنجاء.. ويستنشق الماء أكثر من اللازم.. ويسأل عن الكبيرة والصغيرة في أمور الطهارة والصلاة..
سبقت والدي إلى المسجد وأنا أبحث عن مسلك آمن وسط الدروب الضيقة للكاريان.. كنت أخشى أن تطأ قدمي المخلفات الآدمية، فأضطر إلى الطهارة من جديد.. وجدت «أبو أيمن» جالسا في الصف الأمامي من المسجد.. خاشعا مبتهلا إلى الله.. بدأ بعض «الملتحين» يصل الواحد منهم تلو الآخر.. عجبت لأمر هؤلاء المصلين الذين يفرطون في فراش دافئ ونوم حالم ليجلسوا في هذه «الخربة»، التي تحيط بها البهائم من كل ناحية.. يطلبون الوسيلة إلى الله.. شباب في عز الشباب يأتون لصلاة الفجر.. لهم سمت واحد ويتشابهون في طريقة اللباس والصلاة.. تعمدت أن أجلس مرة أخرى بجانب «جارنا» في الصف الأول.. ابتسم في وجهي ابتسامة «بريئة» تبدي الرضا عني، وتطلب مني المزيد من الاجتهاد والمواظبة.. ما أجمل أن يستيقظ المرء في السحر ليتوجه إلى بيت متواضع يتساوى فيه الجميع.. يُوَلُّون وجوههم شطر قبلة واحدة.. ويدعون إلها لا يرونه..
في بداية صلاتي، كنت أريد أن أرى هذا الإله الذي أركع وأسجد له.. تمنيت في صغري لو تجلى لي الله لأراه حتى أعرف كنهه.. في صلاتي أمعنت النظر في الظلام لعلي أرى شيئا ما.. تساءلت كيف أدعو إلها لا أراه.. وعندما قرأت القرآن في ما بعد تأكدت أني لن أرى الله في الحياة الدنيا!! فهو القائل سبحانه لرسوله «موسى» (عليه السلام) بسم الله الرحمن الرحيم:
«قال لن تراني، ولكن انظر إلى الجبل، فإن استقر مكانه فسوف تراني، فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا، فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المومنين» صدق الله العظيم (الأعراف 143)…
كان يؤمنا شيخ طاعن في السن.. لا تساعده ركبتاه على الوقوف.. يكاد يهوي إلى الأرض لوحده.. ومع ذلك، فله صوت جَهْوَري يرتل به القرآن ترتيلا خفيفا.. سمعت شهقات بعض الشباب تنبعث من بين صفوف الصلاة.. تملَّكَتْنِي رهبة شديدة وسط هذا الجو الإيماني الأخَّاذ.. لحى تبللها دموع دافئة.. وزفرات وشهقات تنطلق من أعماق الأفئدة..
لماذا لا أبكي في الصلاة مثل هذه «اللحى» المتطاولة؟؟
تذكرت مرة أخرى وأنا في الصلاة الطابق العلوي لدكان «الخياط».. وجارنا «سي براهيم» وزوجته.. شهقات ليست كالشهقات.. ما أعظم الفرق بين زفرات الذنوب وخفقات الإيمان.. تمنيت لو أن الدموع انهمرت من عيوني أنهارا وأنهارا، لكنها جفت في وقت الحاجة.. هل بلغت بي القسوة إلى هذا الحد وأنا ما زلت في ريعان الشباب؟؟ لم أستطع الجواب عن هذه الأسئلة في تلك اللحظة من عمري؟؟
شدَّ «أبو أيمن» على يدي بعد أداء صلاة الصبح وكأن حال لسانه يقول: لا تقلق ستنهمر دموعك في يوم من الأيام.. تبعته مسرعا خارج المسجد أريد أن أصحبه في طريق العودة إلى منزل أمه المجاور لنا.. اعتذر لي الشاب بأدب وقال لي إن له موعدا الآن مع بعض «الإخوان».. لم أكترث لجوابه..
شعرت بانجذاب فطري قوي نحو هذا الشاب، فلم أعد أرغب في مفارقته ولو للحظة واحدة.. أتحين كل فرصة للحديث معه، أو مجالسته.. كان «الشاب» قنطرة عبوري نحو «التدين».. كان هو البوابة التي ولجت منها إلى عالم «الإخوان».. وبعدها السقوط في وقت من الأوقات في مخالب التَّنَطُّع..
إنه سير طويل ووعر إلى الله.. ظننت أني وجدت الله.. لكن «الإخوان» كانوا حجابا بيني وبينه.. كانت هذه هي البداية لأنغمس في حياة كلها تناقضات.. حسبت أن الدين واحد، فإذا بي أكتشف أن لكل جماعة دينا.. وأن لكل حركة صنما تعبده.. وكل واحد يعتقد أن الله اصطفاه وصيا على دينه.. فأين دين الله الذي ارتضاه في الأرض؟؟
لاحظ كل من يعرفني في الكاريان أن حياتي تحولت رأسا على عقب.. أخرج من «البراكة» لأذهب إلى المسجد.. وأخرج من المسجد لأعود إليها.. أنتهي من صلاة لأنتظر أخرى.. من المفروض أن أكون الآن على مشارف الانتهاء من الدراسات الثانوية.. التلاميذ يغدون إلى الثانوية وأنا أصر بشكل جنوني على الذهاب إلى المسجد.. بالفعل اكتشفت مكانا غنيا اعتقدت أنه أحسن من المدرسة، أو الثانوية.. زملائي في الدراسة هم الآن في مستوى الباكالوريا.. وأنا انقطعت عنها في مستوى الخامس ثانوي.. أي ضيعت حوالي ثلاث سنوات من التعليم الرسمي..
أول عمل فكرت فيه خلال هذه الفترة هو المواظبة على قراءة «حزب» من القرآن بعد صلاة المغرب، وآخر بعد صلاة الصبح.. علمت أن جميع مساجد المغرب دأبت على هذا العمل منذ القدم.. نقرأ القرآن جماعة.. نتحلق حول محراب الإمام.. الشيوخ يحفظون الكتاب عن ظهر قلب.. والشباب يتلونه بواسطة المصاحف.. اجتهدت في تلاوة هذا الكتاب العظيم.. لأول مرة في حياتي تعرفت إلى كلام الله.. عندما ينتهي الشهر نكون وصلنا إلى سورة «الناس».. وفي بداية كل شهر نفتتح التلاوة بسورة «الفاتحة»، ثم «البقرة».. هكذا شأن كل شهر.. تلاوة ثم تلاوة.. لا ننتهي أبدا من ذلك.. نردد كالحمقى كلاما لا نفهمه.. أتساءل: كيف يصر إنسان على قراءة كلام لا يفهمه؟ لا أظن أن قراءة القرآن مطلوبة لذاتها.. الله نزل الكتاب لنحفظه.. ثم لنفهمه.. ثم لنعمل به.. أما القراءة المطلوبة فشيء آخر..