دار «السعيد»
لست أتذكر كل شيء عن تفاصيل دار «السعيد»، ذلك المنزل الصغير قبالة جامع بن عياد بالمدينة العتيقة، لكنني أذكر جيدا البئر والدرج الحديدي الذي يشبه إلى حد ما سلم الطائرات. كان شكل المنزل غريبا جدا، غرفتان صغيرتان من دون نوافذ، وبئر باردة مظلمة، في نهاية سرداب صغير معتم، وراء الغرفة المقابلة لباب المنزل. أما وسط الدار فلا يتجاوز قطره مترين، كنت أحب أن أقف إلى جانب دكانة تسند السلم الحديدي يمينا، وتسند ظهري كلما رفعت ناظري إلى أعلى الجدار، حيث توجد أربعة فراغات تشبه النوافذ تتسلل من خلالها أشعة الشمس ظهرا، أيام الفصل الحار والنهارات الطويلة، وتهطل منها أمطار الخير شتاء.. لم أر بحياتي ما يشبه تلك النوافذ الغريبة التي تطل على سطح المنزل أو لنقل أن السطح يطل عليها.. لا أفهم تلك الهندسة «العبقرية»، لأنك حين تصعد إلى السطح تجد الأربع نوافذ تلك عند قدميك، فإذا أردت أن تشاهد وسط الدار عليك أن تجلس القرفصاء وتضع يديك فوق قضبان الحديد ثم تضع وجنتيك فوق الكفين لترى ما بالداخل..
الباب المفضي إلى السطح أيضا كان تحفة، حتى إن معلم الصف الرابع عندما تحدث لنا عن عجائب الدنيا السبع، تبادرت إلى ذهني صورة ذلك الباب التي خلتها من عجائب أقدارنا، حيث جعلتنا نعد الأيام ما يفوق السنة والنصف قبل أن نغادر إلى منزل آخر. كان شكل الباب مربعا إلى دائري، لا أفهم بالضبط، لكنه كان يتوسط الجدار وكأنه لوحة كاريكاتورية معلقة، من لوحات الفنان الراحل بهجت عثمان، خصوصا أن لون الباب كان آجوريا وخشبه قديما مهترئا، نالت منه الرطوبة ونخره السوس، فكان أبي في كل مرة يأتي بقطعة خشب يثبتها على أطرافه بواسطة حفنة مسامير، ثم يضع قفلا جديدا، لأن ما قبله قد تصدأ.
يحضرني الآن مشهد لا أنساه أبدا، حين تحمل أمي طشت الغسيل وتصعد به في السلم الحديدي ثم تفتح الباب المعلق في الجدار، وتحذف بالطشت إلى السطح، وبعدها تنط برشاقة متناهية لتجد نفسها هناك، طبعا لا أتذكر شكل السطح لأنه كان محظورا علينا أنا وأخي الوصول إليه، مثلما كان سلم الحديد والبئر خطين أحمرين، كانت أمي تخشى علينا من كل ما يصادفها، حتى إنها كانت تضع قطنا على آذاننا عندما نخلد إلى النوم، خشية أن تمر حشرة طائشة ناحية الفراش، وربما كانت تحذر أن يفزعنا صوت المؤذن فجرا، لأن صومعة الجامع كانت تحرس بيتنا والبيوت المجاورة.
كانت جارتنا «زهيرو» ترقب عن كثب متى تفتح أمي باب السرداب المفضي إلى البئر، الأمر بسيط، فقد كانت البئر مشتركة بين ثلاثة بيوت، وكل من سعى إلى السقي عليه أن يمر من السرداب المعتم، شيء عجيب يشبه حكايات الساحرات والغيلان، أما جارتنا فلم تكن تقل عجائبية عن تلك الحكايات.
(يتبع…)