دار التوزاني.. الضيعة التي استقبلت النواة الصلبة للبوليساريو
يجهل كثير من البيضاويين لغز دار التوزاني، فهي في نظرهم مجرد بقعة أرضية تحولت إلى تجمع سكني في طريق مديونة، وتفصل حي عين الشق عن سباتة وابن امسيك، على الطريق الرئيسية رقم 7 الرابطة بين الدار البيضاء ومراكش.
حين تتأمل الخريطة الطوبوغرافية للمنطقة في عهد الحماية الاستعمارية ستجد في دار التوزاني حاضرة للمنطقة الخلاء، مجرد قطعة أرضية تابعة للأملاك المخزنية تم بيعها للتوزاني بظهير مؤرخ في 19 يناير 1939. اتنزعت الملكية من الرجل بعد استقلال المغرب بقرار وزاري يستند إلى «المصلحة العمومية التي تقتضي بناء خزانين بطريق مديونة لتزويد المدينة بالمياه»، قبل أن يزحف عليها العمران وتصبح مجموعة سكنية تغطى بالإسمنت المسلح، بينما يرسل أبناء عين الشق الأولون زفيرا من الأعماق كلما قادتهم أقدامهم إلى المكان، فيكتفون بالآهات والتحسر على ضيعة أشبه بذاكرة مبتورة من تاريخ الدار البيضاء.
كيف كان زعماء جبهة الانفصاليين يقضون حياتهم بين دار التوزاني والخيرية؟
الدار الكبيرة لملك المرسى
ارتبطت دار التوزاني وجدانيا ومجاليا بشخصية محمد التوزاني، طنجاوي الأصول والنشأة بيضاوي المقام. ولد التوزاني في مدينة طنجة أثناء خضوعها للحماية الدولية ودرس في ثانوية رينيو، واشتغل ترجمانا في عهد الجنرال داماد، قبل أن ينتقل إلى الدار البيضاء حيث أسندت له مهمة عضو في لجنة تنظيم الموانئ التي غيرت اسمها وتحولت إلى مصلحة الشحن والإفراغ بالدار البيضاء. لم يكن الرجل الطنجاوي في حاجة لفترة استئناس بالوظيفة الجديدة، فقد كان يعرف أن خدمة سلطات الحماية أهم من خدمة الوطن، لذا نذر حياته لتطويع المغاربة وإرضاء الفرنسيين فنال وسام الشرف من درجة فارس سنة 1916، كما تلقى من الماريشال ليوطي رسالة تنويه قبل نهاية ولايته تتضمن تهنئة على «الخدمات التي أسداها لسلطات الحماية»، لتتم ترقيته إلى رئيس قسم العمالة المغربية بالميناء ويشغل منصب مستشار في محكمة الجنايات.
عرف التوزاني بسلطاته الواسعة في ميناء الدار البيضاء، رغم أنه كان مجرد رئيس قسم للموارد البشرية في المرسى، إلا أن الصحف الصادرة في الأربعينات والخمسينات، خاصة صحف حزب الاستقلال والحزب الشيوعي وصوت النقابات، كانت تطلق عليه ألقابا تكشف عن جبروته، فهو حسب ذات الصحف «ملك المرسى» و«ديكتاتور البور» والحاكم العام لفئة «الدوكير والحمالة» الذين برع في استنزاف طاقاتهم البدنية في ظل غياب آليات تعفي الأجساد من الشحن والإفراغ.
منذ تأسيس الشركة الفرنسية «لامانيطانسيون ماروكان» سنة 1915 وتحديد مهمتها في شحن وإفراغ وتخزين البضائع، أوكلت للتوزاني مهمة انتداب اليد العاملة للميناء وتدبير فائض «الحمالة» بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية والهجرة القروية إلى الدار البيضاء. لكن الرجل مارس قهرا كبيرا على المغاربة البسطاء، فدخل في صراع مكشوف مع النقابات حيث تصدت له جريدة «لاكسيون سانديكال» عبر مقالات وافتتاحيات كان يكتبها امحمد الطاهر يتهمه فيها باستغلال اليد العاملة أبشع استغلال، بل إن التوزاني بنى مطعما خاصا في المرسى وأجبر العمال على تناول وجباتهم فيه، وكان يقتطع ثمن الوجبات من رواتبهم.
هروب التوزاني نحو أوربا
مارس التوزاني «هواية» امتلاك الأراضي في أوقات الفراغ، إذ امتلك بقعا أرضية أخرى في الدار البيضاء وضواحيها، وفي المدينة القديمة وفي مديونة وله قطع أرضية كبيرة في الهراويين.
كانت دار التوزاني فسيحة الأطراف، هي حي في مساحة شاسعة تفضي إلى مخارج المدينة، وتضم أشجارا مثمرة وجميع أنواع الفواكه، التي تطل من فوق أسوار الدار الكبيرة، لذا كان يحرص على أن تتم حراستها من طرف «الكوم» وكأنها منشأة مخزنية.
وصف امحمد الطاهر دار التوزاني بأنها قصر «يضاهي قصور الملوك»، وتساءل عن مصادر هذه الثروة الفاحشة التي امتلكها «سيد المرسى» مذكرا ببداياته كموظف بسيط في الميناء. وسجلت الحركة الوطنية مجموعة من المواقف العدائية للرجل، خاصة حين رفض منح العمال قاعة لإقامة حفل عيد العرش يوم 18 نونبر 1952، والسجن الذي خصصه للعمال الذين بادروا بإقامة الحفل ضدا على قراره.
يقول نجيب متقي الباحث في تاريخ الدار البيضاء، إن التوزاني كان يتصدى للنقابات بإقحام الدين في الصراع، وكان ينظم تجمعات يصف فيها النقابات بصنيعة اليهود والكفار، لأن سلطات الميناء اعتمدت عليه في محاولات كسر شوكة التكتلات النقابية.
ورد اسم التوزاني في لائحة المطلوبين للتصفية الجسدية من طرف خلية المقاومة، وقال ألبير عياش في كتابه «الحركة النقابية بالمغرب» إن الاستغناء عن خدمات «ديكتاتور» المرسى قد وقع سنة 1954، حينها اختفى عن الأنظار، وقيل إنه سافر إلى فرنسا قبل عودة السلطان رفقة متورطين في الموالاة للإقامة العامة. كما ورد اسمه ضمن «لائحة التجريد من حقوق المواطنة لمدة 15 سنة» حسب الجريدة الرسمية الصادرة في 22 غشت 1958 والحكم بمصادرة أملاكهم.
حزب الاستقلال يستوطن الدار
زحف حزب الاستقلال على دار التوزاني، في محاولة لضمها إلى أملاكه، لكن الحكومة حولتها إلى مكان لإيواء مئات الشباب القادمين من المناطق الصحراوية التي كان المغرب يطالب بها إسبانيا، اعتبرها الوافدون من الجنوب داخلية وتارة ملحقة لخيرية الدار البيضاء بعد أن خصص جناح منها لإيواء مئات الشباب الذين أطلق عليهم اسم «أولاد شنقيط» رغم أنف ورثة التوزاني، الذين لجؤوا للديوان الملكي قصد استرجاع هذه المعلمة التي احتضنت النواة الصلبة لقيادة جبهة البوليساريو.
لكن ما هي أسباب النزول؟ وكيف استفاق أبناء عين الشق وابن امسيك على ضيوف من الصحراء، استقروا داخل دار التوزاني التي كانت تلفها الكثير من الأسرار؟
تقول الروايات التاريخية إن مغرب ما بعد الاستقلال كان يريد توطيد سلطته الهشة على كثير من المناطق التي سعت بدورها إلى الانعتاق من «ربقة» المستعمر الفرنسي والإسباني بالخصوص، لذا ظهرت حركات معادية للمستعمر دخلت في مواجهات مباشرة وغير متكافئة مع السلطات الاستعمارية التي أعلنت تحالفها في التخوم الصحراوية. وقامت بحملات ضد هؤلاء المقاومين، عرفت بغارات «أوراغان- إكوفيون». يقول العربي الجرموني في دراسة جامعية حول نضال ما بعد استقلال المغرب، «بينما كانت القبائل الصحراوية تتشتت تحت وقع القنابل، كان جيش الجنوب يجرد من أسلحته، والقمع الإسباني في المنطقة يزداد ضراوة. وهو ما دفع فرانكو إلى التخلي للمغرب عن منطقة طرفاية».
كبرت فاتورة العنف، وارتفع عدد ضحايا القصف، لكن التضامن الفعلي «أتى من المقاومين القدامى، حيث نظم الفقيه البصري ترتيبات لاستقبال 200 طفل من أبناء مجاهدي القبائل الذين تم إجلاؤهم عن الصحراء بعد حملة إكوفيون الإسبانية، حيث تم إعداد «عرصة» دار التوزاني لإيوائهم والعناية بهم في الدار البيضاء. كان بينهم فتى طويل القامة اسمه مصطفى الوالي. من كان يفكر أن دار التوزاني ستغدو منبتا لقادة جبهة البوليساريو؟»، كما جاء في «صديقنا الملك» لجيل بيرو.
في شهر يناير سنة 1958، وضع الفرنسيون والإسبان معا، بتزكية من السلطات المغربية خطة لعملية أوراغان، التي يدعى الجزء الفرنسي منها إيكوفيون. وبعد شهر واحد، قام خمسة عشر ألف رجل مدعمين بحوالي مئة طائرة، بتمشيط الصحراء، مما اضطر القبائل الصحراوية وقد قضي على ماشيتها، للهجرة. ومما جعل المقاتلين يعلنون استسلامهم. يقول الطيار المغربي صالح حشاد في شهادته على العصر التي أدلى بها لقناة الجزيرة، إنه كان ضمن الطيارين الذين شاركوا في هذه الحملة إلى جانب القوات الفرنسية، وهي العمليات التي شارك فيها مجموعة من الطيارين المغاربة الذين سيتابع بعضهم بتهمة قلب النظام بعد اعتراض الطائرة الملكية في شمال المملكة سنة 1972. وكان من بين الناجين من عملية «إيكوفيون» أحمد إكوليز الذي عرف بـ«شيخ العرب».
أطفال صحراويون في ضيافة التوزاني
حين توقفت حافلتان أمام بوابة دار التوزاني، في خريف سنة 1957، لم يكن الأطفال الصحراويون يعرفون أين يقودهم القدر، فقد اعتقد أغلبهم أن الدار الفسيحة هي مدرسة تضم داخلية، لكن مع مرور الأيام علموا أن الفضاء الواسع يعرف بدار التوزاني، وبعد قضاء ثلاثة أيام كان رجال السلطة يسارعون لتسجيلهم في مدرسة سيدي محمد بن يوسف دون أن يكون لكثير منهم الوثائق التي تسمح بالتسجيل، ودون اعتبار لانتهاء آجال الالتحاق بالمدرسة، فقد كان الموقف استثنائيا.
حين اجتاز أغلب التلاميذ التعليم الابتدائي انتقلوا إلى ثانوية بعيدة في شارع 2 مارس «ثانوية محمد الخامس» ومنهم من تم نقله إلى الرباط لاستكمال تعليمه الثانوي في ثانوية الليمون.
كان عبد القادر طالب عمر، الذي سيشغل في ما بعد منصب «وزير أول» في جبهة البوليساريو، من بين العناصر النشيطة في دار التوزاني، وشكل إلى جانب الأطفال الوافدين من طانطان النواة الصلبة لهذا التكتل الصحراوي، وقد اختار اجتياز مباراة ولوج مدرسة المعلمين قبل حصوله على الباكلوريا ويظفر بمنصب معلم، قبل أن يصبح من وجهاء تيندوف.
وخلافا لهؤلاء، كانت طباع طفل يدعى محمد الشيخ بيد الله هادئة، لا ينتفض لانتفاضة زملائه، ولا يخاطر بنفسه من أجل مطلب قد يكلفه غاليا، لقد كان اسم بيد الله على رأس قائمة المرحلين إلى الدار البيضاء، قادما إليها من بويزكارن رغم أنه من مواليد مدينة سمارة، حصل الرجل على شهادة الباكلوريا في الدار البيضاء لينتقل إلى كلية الطب بالعاصمة الرباط في نهاية الستينيات، ثم يعود إلى العاصمة الاقتصادية طبيبا بمستشفى ابن رشد.
لكن هدوءه لم يمنعه من الانخراط في الحركة الطلابية بالجامعة، والانضمام إلى الحراك السياسي الذي قاده المنحدرون من الصحراء، الذين سيؤسسون جبهة البوليساريو الانفصالية، وكان الهدف الأول «مقاومة الاستعمار الإسباني في الصحراء، واسترجاع إقليم الساقية الحمراء من قبضته»، لكن هذا المشروع السياسي سيأخذ بعدا انفصاليا حين دفع البعض، وعلى رأسهم الوالي مصطفى السيد، بطرح الانفصال، مما جعل بيد الله يعارض هذا التوجه وهو حينها طالب في كلية الطب ليعلن انسحابه لاحقا، متحملا المضايقات الكثيرة التي تعرض لها، إلا أن شقيقه بيد الله إبراهيم الشهير بـ«كريكاو» فضل البقاء ضمن ما بات يعرف بخلية طانطان والتحق بالبوليساريو.
غضب الإسبان من ترحيل الصحراويين
انزعجت الحكومة الإسبانية حين علمت بنزوح عدد من الأطفال إلى مدينة الدار البيضاء، واستدعى الكاتب العام، لما كان يسمى آنذاك الحكومة الصحراوية، وهو عقيد ينوب عن الجنرال الإسباني الحاكم العام للمنطقة ويقيم في العيون، مدبري الترحيل السري، وواجههم بتهمة «تهريب قاصرين خارج المنطقة بدون إذن من الحكومة الإسبانية».
كانت المنطقة آنذاك تحت سيطرة إسبانيا وكان حاكمها العام يرسل عيونه لمعرفة من يتواجد في دار التوزاني ومن غادرها ومن قرر العودة إلى الصحراء، كما استنطق آباء وأولياء المرحلين عن الجهات التي دبرت العملية والغاية منها.
كانت إسبانيا تخشى القادمين من الشمال وتخشى أكثر من أبناء المناطق الجنوبية للمغرب، الذين يدركون أن ارتباطهم لن يكون إلا ببلدهم المغرب لاعتبار منطقي واحد وهو أن الصحراء كانت دائما تابعة للشمال قبل الاستعمار الإسباني. كل أبناء الأقاليم الصحراوية المغربية يدركون أن الصحراء كانت جزء من المملكة المغربية قبل مجيء الاستعمار الإسباني.
لم يقتصر الإزعاج على الإسبان بل أقلق الفرنسيين أيضا، الذين كانوا حينها ما زالوا يحتلون الجزائر. ففي بداية عام 1957، خططت القوتان الاستعماريتان لضرب مناضلي الصحراء في ما بات يعرف بعملية «المكنسة».
قامت القوات الفرنسية بالهجوم يوم 10 فبراير من العام 1958 على مدينة السمارة التي احتلتها، وقامت القوات الإسبانية بعملية مماثلة بوادي الذهب. وتمكنت القوتان من ضرب جيش التحرير المغربي وإجباره على التراجع، فيما تمكن البعض منهم من الفرار إلى المغرب المحرر وخاصة منطقة كلميم.
وكشفت بعض التقارير العسكرية التي كان يعدها الجيش الفرنسي أن فشل جيش التحرير المغربي يعود بالأساس إلى غياب الدعم المحلي لحركته وللنزاعات التي نشبت بين هذا الجيش وقبائل الركيبات، التي كانت ترى في عناصر هذا الجيش مجرد غرباء ودخلاء، فضلا عن كون جيش التحرير كان يعاني من مشاكل لوجيستيكية كبيرة تعود بالأساس إلى أن أعضاءه كانوا بعيدين عن مراكز التموين.
غير أن بعض الشهادات لشخصيات عايشت تلك الوقائع تشير إلى أن السلطة المغربية حينها كانت تتابع بتوجس تحركات جيش التحرير المغربي وبأنها كانت تريد فقط تحرير الصحراء عبر الطرق الديبلوماسية.
بين الخيرية والضيعة
لم يقتصر مقام الصحراويين على دار التوزاني، بل إنهم عاشوا فترة زمنية في مقر الجمعية الخيرية الإسلامية لعين الشق، وقيل حينها إنهم نزلاء مؤقتون بالمرفق الخيري، «سيقضون فترة بين الأيتام إلى حين استكمال ترميم بعض مرافق دار التوزاني التي يقيمون فيها والتي لا تبعد عن «الخيرية» إلا ببضعة أمتار. يقول ياسر لحسن نزيل سابق بالجمعية الخيرية: «داخل الخيرية كانت هناك فئات متنوعة، وكنا نسمي الوافدين من الصحراء بـ«الشناكطة» نسبة لشنكيط، وهم على حد علمي أبناء شهداء جيش التحرير، القادمين من الصحراء، وكان بيننا فئة «لمذاكرة» وهم أطفال جيء بهم من قبيلة لمذاكرة التي تبعد عن الدار البيضاء بحوالي 65 كيلومترا ربما بسبب كارثة بيئية حصلت هناك، وأطفال الوازيس، وهم المتخلى عنهم الذين يأتون من مركز للا حسناء للأطفال المتخلى عنهم، الكائن مقره آنذاك بحي الوازيس بالدارالبيضاء، قبل أن ينتقل إلى جهة أخرى، وأطفال الزلزال وهم أطفال حلوا بالمؤسسة الخيرية مباشرة بعد زلزال أكادير سنة 1960 وأغلبهم فقدوا آباءهم، طبعا إلى جانب اليتامى من أبناء الدار البيضاء، لكن مجموعة «الشناكطة» كانت الأكثر تكتلا وتضامنا ربما لأنهم الأبعد ولأن ثقافتهم مختلفة عن ثقافة باقي النزلاء».
يجمع أبناء «خيرية عين الشق» الأولون، أن أول وفد من ممثلي الصحراء الذين رافقوا البشير الوالي لمقابلة السلطان محمد الخامس، كان يتكون في أغلبيته من قدماء نزلاء هذه الدار، أي المجموعة التي تعرف بـ «الشناكطة» وأن هؤلاء، بعد أن فشل اللقاء مع السلطان، قرروا الرجوع إلى الجنوب.
يؤكد أكثر من نزيل سابق على أن ملاعب خيرية عين الشق كانت تعج بأطفال شنكيط الذين مارسوا مختلف الرياضات، وكانوا أبطالا في الركض والألعاب التي تتطلب جهدا بدنيا، بينما كانت الفئات الأخرى تفضل ممارسة كرة السلة وكرة القدم. وحده الوالي مصطفى زعيم البوليساريو الأول والذي عاش في دار التوزاني وخيرية عين الشق بالدار البيضاء كان حريصا على ممارسة رياضة كرة السلة اعتمادا على قامته الفارهة.
البرنامج اليومي للدار
استمر مقام أغلب الوافدين بالدار البيضاء ما بين أربع وعشر سنوات، كان النظام السائد في دار التوزاني «نصف داخلي» حيث تقرر إيفاد الأطفال إلى خيرية عين الشق إلى حين إحضار الأثاث الخاص بالإقامة في دار التوزاني.
اكتشف الأطفال الفرق بين حيطان الخيرية وبساتين ضيعة دار التوزاني، التي كانت شاسعة الأطراف يتوسطها مسبح وحقول لكل أنواع الخضر والفواكه، بينما تم بناء الدور وفق الطابع العربي مع لمسات أوربية زادت المكان سحرا، وحولت الأطفال إلى صائدي عصافير ومستهلكي كل أنواع الفواكه الموسمية ضدا على رغبة الحراس.
كان البرنامج صارما، حرص المدير المعطي على تنفيذه وكأنه نسخة منقحة من صاحب البيت الفسيح، كان يخصص يوم الجمعة للاستحمام الجماعي ويتم في مساء ذات اليوم نقل الجميع إلى إحدى دور السينما بشارع الفداء لمشاهدة أحد الأفلام المخصصة للأطفال، ولأن صاحب السينما كان من رجال المقاومة فقد مكن الوافدين الصحراويين من مجانية الفرجة. وفي أيام الأحد يمكن لأبناء شنكيط مغادرة الدار بكامل الحرية دون الحاجة لحضور الوجبات الغذائية، مما يمكن العديد منهم من التعرف على المدينة واكتشاف أحيائها ومنهم من كان يفضل التردد على الأسواق والوقوف في الصفوف الأولى لحلاقي القريعة. وفي المساء يعودون جماعيا إلى دار التوزاني عبر الحافلة التي كانت تربط وسط المدينة بعين الشق والحاملة لرقم 4 وتشتغل بالكهرباء، وفي اليوم الموالي يستأنف الجميع دراستهم بعد أن يلزمهم مسؤولو الدار بمراجعة دروسهم.
النواة الصلبة للبوليساريو في دار التوزاني
كان مصطفى الوالي من أبرز نزلاء دار التوزاني وأكثرهم شجاعة، وهو الذي سيصبح زعيما للبوليساريو بعد أن تشرب أطروحة الانفصال، وينتهي به المطاف قتيلا بعيار ناري من الخلف في هجومه على العاصمة نواكشوط سنة 1976. لقد تعلم مصطفى أول دروس الاحتجاج في الخيرية، وأشرف على تنظيم وقفات احتجاجية أمام عمالة الدار البيضاء، قبل أن تختمر تجربته الثورية بعد التشبع بالمد الشيوعي، ويجد نفسه في طليعة الوقفة التي نظمها على رأس مجموعة من الطلبة الصحراويين، الذين رافقوه في ملجأ التوزاني، منددا بزيارة وزير خارجية فرانكو لوي برافو للمغرب.
اعتقل الوالي إثر هذه الوقفة وعذب داخل أقبية «الكومبليكس» بالرباط العاصمة، قبل إطلاق سراحه وتواريه عن الأنظار وانقطاع أخباره رغم أنه ظل يتردد على الدار البيضاء لزيارة بعض رفاق مساره حين كان مقيما في دار التوزاني بحي عين الشق، حيث كان يقضي جل عطله الدراسية مع الطلبة الصحراويين.
«بعد سقوط الوالي، سقطت البوليساريو لقمة سائغة بين فكي النظام الجزائري الذي أغدق عليها من ريع نفطه بالمال والسلاح لزعزعة استقرار المغرب واستنزافه في نزاع مفتعل بدعوى حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره»، يقول محمد يحضيه في «ذاكرة التمرد».
ظهر واضحا من خلال البيان التأسيسي لجبهة البوليساريو الصادر في الصادر 10 ماي 1973، وجود أسماء عديدة عاشت تجربة دار التوزاني، ومن خلال لائحة الصحراويين التسعة المؤسسين للجبهة يمكن الوقوف على دور الضيعة في بناء شخصية المتمردين الشباب، خاصة بعد أن ذاقوا وهم في فترة الشباب أكبر أصناف التعذيب في مخافر الشرطة بسبب تصرفات لا تتجاوز حدود شغب اليافعين في تجمعاتهم. تضم اللائحة الوالي ولد الشيخ مصطفى السيد، المنحدر من مدينة السمارة، وولد الشيخ بيد الله وهو من نفس المدينة الدينية، وعمر ولد الشيخ حامد، رجل ثقة الوالي السيد، وإبراهيم غالي ولد الشيخ المصطفى، والبشير ولد عبد الله الدخيل المولود في مدينة العيون، وهو سياسي صحراوي معروف بمواقفه الإنسانية والحقوقية، وصدافة ولد امحمد باهية وهو من أصول موريتانية، ومحمد لمين من مدينة طانطان الذي أصبح الرجل الثامن في هرم الجبهة في ما بعد، وهو مفكر ومنظر سياسي، والمحفوظ علي بيبا المنحدر من نفس المدينة والذي أصبح مؤسسا ومديرا لجهاز للمخابرات بالبوليساريو لفترة زمنية. فضلا عن ماء العينين مربيه ربو الذي أصبح مديرا لإذاعة الانفصاليين، واللائحة طويلة.
أوفقير يمسح آثار التنظيم
في بداية الستينات قرر بعض أبناء الجمعية الخيرية الإسلامية لعين الشق، تأسيس «جمعية قدماء دار الأطفال عين الشق»، ولاحظت السلطات الأمنية وجود بعض الأسماء التي كانت ضمن نزلاء دار التوزاني من بين أفراد اللجنة التحضيرية، وحسب رواية أحد قدماء «الدار» فإن «هذه التجربة الجمعوية التي انطلقت مع بداية الستينات من القرن الماضي، وبالضبط في سنة 1963، وانتهت بقرار إداري صادر عن وزارة الداخلية في عهد الجنرال أوفقير، قضى بحلها وتمت ملاحقة أبرز أطرها». وأضاف نفس المصدر أن تلاميذ الجمعية الخيرية ساهموا «بشكل كبير في الاحتقان حيث كانت مجموعة من التلاميذ والطلبة الذين يدرسون بـ«نادي الطالب» وهو أحد المراكز التابعة لـ«الجمعية الخيرية الإسلامية بعين الشق» حيث يعيش التلاميذ الذين اجتازوا امتحانات الشهادة الابتدائية بـ«دار الأطفال عين الشق» والتحق بهم التلاميذ القادمون من البوادي المجاورة لاستكمال تعليمهم الثانوي، كان هذا النادي مشتلا طبيعيا لتلاقح الأفكار المختلفة، وبحكم العلاقات الإنسانية العميقة التي جمعت هؤلاء الطلبة، رغم اختلاف الانتماء القبلي: الشاوية وجبال الأطلس وسوس والصحراء، فإن النادي كان مؤهلا لأن يساهم بقسط وافر في تأطير الحراك، بحكم انتماء نزلائه إلى مختلف التيارات السياسية التي كانت مهيمنة على الساحة السياسية: الاتحاد الوطني، الحزب الشيوعي المغربي، المجموعات اليسارية التي ستتشكل في ما بعد. وهذا ما تحكي عنه الاعتقالات التي ستطال مجموعة من نزلاء النادي، عشية انطلاق الانتفاضة التلاميذية المعروفة بـ«انتفاضة 23 مارس 1965».
دعم «الحاج عابد» رئيس الجمعية الخيرية التوجه الجمعوي وساهم بماله في إقامة هذا الكيان، قبل أن يتلقى مكالمة هاتفية من البوليس السياسي، يدعوه للتراجع خطوتين إلى الوراء، وإنهاء دعمه ومساندته لهذه التجربة التي قادها بعض الطلبة الصحراويين وأبناء الشهداء، فأجهض مشروع «جمعية قدماء دار الأطفال البيضاوية»، بعد أن عمرت سنتين فقط، حيث «سيتم اعتقال بعض مؤسسيها بتهمة الانتماء لتنظيمات سرية وسيفر آخرون خارج المغرب» يضيف ذات المصدر. وحسب روايات مجموعة من الاتحاديين، فإن دار التوزاني قد احتضنت، بعد انشقاق حزب الاستقلال، وخروج الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، اجتماعات سرية وتحولت إلى مدرسة للتكوين الإيديولوجي والسياسي لأطر الحزب الجديد على يد المهدي بن بركة، كما استغلها الحزب أيضا في استقطاب مناضلين جدد. وفي عام 1963 استفادت أسرة التوزاني من العفو واستردت جزءا من الدار التي انقرضت بعد ذلك بسبب زحف العمران.
كيف تم إجلاء النزلاء؟
أجمعت الروايات على أن إجلاء الصحراويين من دار التوزاني نتج عن انتفاضة جماعية مبكرة. يقول ماء العينين مربيه ربو في أكثر من لقاء إعلامي إن سبب المغادرة تافه لكنه عميق الدلالات.
«عينت السلطات على رأس دار التوزاني مديرا يحمل اسم المعطي، استغل مسؤوليته ليستحوذ على الدار وممتلكاتها. بدأ باستعمال السيارة الوحيدة، وهي من نوع «فولسفاغن»، المخصصة لنقل الأطفال الصغار إلى المدارس الموجودة بالقرب من كاريان سيدي عثمان، ثم ما لبث أن حاز هذه السيارة بشكل نهائي لأغراضه الخاصة. بعد ذلك استولى على الجناح الأجمل في دار التوزاني، جاعلا منه مسكنه الخاص، وضم إليه المسبح. أصبحت نصف الدار ممنوعة علينا، ما سيؤدي إلى حالة تذمر في أوساط التلاميذ، تحولت إلى اعتداء على المدير، الذي بعد أن أغمي عليه رميناه في طريق مديونة. لم نندم على فعلتنا لأن الرجل استغل مكانا مخصصا للتلاميذ لمصالحه الخاصة وجعله مكانا لسهرات يستدعي إليها أصدقاءه».
قبل الهجوم على المشرف العام، نظم الصحراويون المقيمون في دار التوزاني وقفة احتجاجية هي الأولى في تاريخ عمالة الدار البيضاء، لكن السلطات انتبهت إلى خطر شبابي قادم من قاطني الدار الفسيحة التي كانت تعيش في صمت، يضيف مربيه ربو في اللقاء ذاته، «أذكر أن شابين أنيقين استوقفاني أمام بوابة المدرسة، وطلبا مني الالتحاق بالعمالة لأمر يهمني. ما كدت أوجه ناظري إليهما، حتى أثار انتباهي توقف مباغت لسيارة شرطة تم إقحامي فيها، ومنعي من طرح أي سؤال، وصلت السيارة الدائرة المركزية الأمنية بالدار البيضاء التي سأجد فيها كل زملائي. قضينا ليلة اعتقال مفترشين الأرض، لم يغمض لنا جفن، خاصة أن رجال الأمن كانوا على رأس كل ساعة تقريبا يأخذون منا واحدا إلى وجهة غير معلومة».
تقرر توزيع أبناء الشهداء على مدن مختلفة بعد أن اقتنعت السلطات أن تجميعهم في مكان واحد من شأنه أن يساهم في بناء مشروع ثوار. جاء دوري طبعا، «حملوني بمعية حوالي 15 تلميذا على متن سيارة الشرطة نحو محطة القطار. كانت الوجهة، دون أخذ رأينا طبعا، هي خيرية دار الطالب بمدينة الرباط. لم يضيعوا الوقت، فقد شرعوا في توزيعنا على الثانويات، متعمدين تفريق المجموعات وتشتيتها»، يقول ماء العينين. لم يطل مقام التلاميذ في دار الطالب الرباطية سوى أيام معدودة قبل أن يقرروا الهروب كل نحو وجهته، بينما بقي عدد قليل سرعان ما اختفى عن الأنظار لتنتهي حكاية أبناء شنكيط.