خياطو الملوك.. الحياة المنسية لآل ساسون
مذكرات لأحفاد المشرفين على لباس ساكني القصر
يونس جنوحي
رجالهم عُهد إليهم بأمانة ثقيلة وهي الإشراف على لباس السلطان وزيه الرسمي، الذي يظهر به في المناسبات الرسمية والدينية. بينما نساؤهم عُهد إليهن بمهمة مجالسة الأميرات ومحظيات القصر.
عاشت كل من عائلة ساسون، وبوطبول، محطات مهمة من تاريخ المغرب، ونقل ألبير ساسون، حفيد الأولى، الذي كتب مذكرات عن أرشيف العائلة وحكايات نسائها وعلاقتهن مع العائلة الملكية، مغامرات رجال من عائلته تأثروا بموجات المد والجزر.
++++++++++++++++++++++++++++
لحظات مؤثرة من حياة «آل ساسون» مع محمد الخامس
نحن أمام محكيات عائلية، أو هكذا اختار صاحبها «ألبير ساسون»، ابن أسرة ساسون اليهودية المغربية أن يسميها، ويختار لها أيضا عنوانا فرعيا كالآتي: «مسار عائلة يهودية مغربية».
هذه العائلة قدمت إلى القصر الملكي من باب الحرف اليدوية. وحتى نكون أكثر دقة، فإن حرفة الخياطة هي التي أدخلت العائلة رحاب القصر الملكي في فاس، أيام المولى محمد الرابع. لكن وجود هذه الأسرة، بحسب ما يحكيه ألبير في كتابه هذا، سوف يتعزز أكثر أيام المولى الحسن الأول. واستمر وجود «ساسون» تحت خدمة العائلة الملكية، مع الملوك العلويين، وصولا إلى الملك الراحل الحسن الثاني الذي ورث خياطيه من أبناء العائلة.
هنا نورد مقطعا مؤثرا يكتبه ألبير ساسون، حسب ما روته له نساء العائلة، عن اللحظة التي مثلوا فيها أمام الملك الراحل محمد الخامس، أو مولاي السلطان محمد بن يوسف، سنة 1927 بعد تربعه على العرش، وكان يعرف جل أفراد عائلتي ساسون وبوطبول أيضا، بحكم أن خياطي العائلتين ونساءهم كانوا يترددون على القصر الملكي، وتعود علاقتهم ببعض أبناء المولى الحسن الأول، وعلى رأسهم السلطان مولاي يوسف إلى الفترة التي كان فيها الأمراء أطفالا في مكناس وفاس، حيث كانت تستقر العائلة قبل انتقالها إلى الرباط سنة 1912. يقول ألبير ساسون متحدثا عن الفترة التي انتقلت فيها السلطة إلى السلطان محمد بن يوسف، بعد وفاة والده، واللحظة التي استقبل فيها السلطان الشاب عائلة ساسون لاعتمادهم خياطين لديه محتفظا بهم عن فترة والده:
«حسب رواية ياقوت ساسون، فإن أم سيدي عويشة أخبرت سيدي محمد وهي تقدم له متمنياتها، أنها لم تعرف والديها، معلنة عن رغبتها في الاستمرار في العيش في القصر إذا سمح لها السلطان بذلك. وبعدها، وضعت بين يديه كل المجوهرات التي أهداها إياها مولاي يوسف، مؤكدة عدم حاجتها إليها، بعد وفاة هذا الأخير. أجابها سيدي محمد بضرورة الاحتفاظ بمجوهراتها وبالبقاء في القصر طالما شاءت ذلك، مضيفا أن الاحترام الواجب إزاءها سيظل مثلما كان في عهد والده. لم تعمر أم سيدي عويشة طويلا بعد رحيل مولاي يوسف، وفارقت الحياة بعد إصابتها بمرض وولوجها المستشفى، وطوال تلك المدة، كانت عائلة ساسون تعودها باستمرار لتأكيد مشاعر الود إزاءها. في الفترة تلك، ونظرا إلى تقدمه في السن وصعوبة قيامه بالأعمال الكثيرة المطلوبة منه، طلب أبراهام ساسون المساعدة من حاييم بوطبول، زوج أكبر بناته، رحمة، للعمل بجانبه في خياطة ملابس القصر بالرباط.. وترك هذا الأخير عمله بقصر فاس للالتحاق بصهره، لتبدأ المرحلة الانتقالية التي ستقوده إلى خلافة أبراهام ساسون في منصب خياط السلطان والأسرة الملكية. بدأ ميمون بوطبول، ابن عم حاييم بوطبول والداهما بالتوالي أبراهام وسمول شقيقان، يقدم يد المساعدة في المخيط. وكان قد شرع في العمل بقصر فاس في عهد مولاي يوسف، قبل الالتحاق بقصر الرباط في سنة 1927، وإذا كانت الخياطة مهنته الأولى، فإنه سبق له الاستقرار في مراكش، كما نوع مجالات تجارته لاحقا لتطال بيع الأواني الفضية المستوردة من مانشستر البريطانية، أو المصنعة في الدار البيضاء، ومعها الأثواب المطرزة بالذهب الصقلي، اختصاص الحرفيين اليهود وقتها. كان ميمون بوطبول يرافق آل ساسون يوميا لقصر الرباط، وأصبح يتكلف بمفرده بالمخيط العائلي، حين تنتاب أبراهام وعكة صحية، أو تكون ياقوت منشغلة مع نساء البلاط».
من ساسون إلى آل بوطبول.. نساء العائلتين المنسيات
يقول ألبير ساسون متحدثا عن السبب وراء انتقال مهنة «خياط الملك» من آل ساسون، بعد أن ورثوها منذ زمن المولى محمد الرابع، أي قبل سنة 1877، إلى أن انتقلت لاحقا إلى آل بوطبول في ثلاثينيات القرن الماضي:
«نظرا إلى كون لا أحد من أبناء أبراهام الثلاثة تكون على يد والده لتعلم مهنة الخياطة وخلافته بعد وفاته، سمح السلطان لحاييم بوطبول بتولي المهمة تلك. أما ياقوت، فاستمرت تزور البلاط إلى حين وفاتها بعد مرور عامين تقريبا على موت زوجها، في سنة 1941 وقبل ذلك، قامت بتقديم مسعودة، البنت الثانية لأبراهام من زواجه الأول، للسلطان الذي كان يبحث عن ممرضة ومرافقة لوالدته، أم سيدي الياقوت. لم تكن صحة هذه الأخيرة على ما يرام، مما كان يتطلب مراقبة شبه دائمة لحميتها الغذائية ولتناولها للأدوية. هذا، وتفاوضت مسعودة مباشرة مع السلطان حول عقد عملها، كما حكت ذلك بنفسها مرارا، ليتفقا على أنها ستشتغل ستة أيام في الأسبوع، مع احترام راحة يوم السبت (شبت)، وعلى راتب شهري وكيس دقيق يسلم شهريا إلى منزلها الكائن في بو الخصيصات، بين فاس البالي وفاس الجديد المتاخم للملاح. وفي الواقع فإن السلطان كان كريما جدا مع مسعودة التي خلفت مرافقة يهودية أخرى لوالدة السلطان، هي سميحة سوسان، والتي قامت بخدمة أم سيدي الياقوت بكثير من التفاني، مما جعل صحتها تتحسن بشكل ملموس. وفي الحقبة ذاتها، استجاب السلطان لملتمسات والدته ومسعودة، فمنح لأبناء هذه الأخيرة عدة مساعدات للاستقرار في مراكش والدار البيضاء، مثلما وهبها هي رخصة محل لبيع الدخان وأخرى لسيارة أجرة.
لقد كنتُ شديد المعرفة بعمتي مسعودة، كما أنصت لها مرارا وتكرارا وهي تروي عن حياتها وعن علاقاتها مع سلطان المغرب، سواء إبان خدمتها لوالدته أو بعد وفاتها. كل هذا أكد لي بما لا يدع مجالا للشك أن هذه العلاقات تميزت بالقرب وطُبعت بود حقيقي. وسيعبر لها العاهل في عدة مناسبات عن عرفانه واحترامه».
توفي أبراهام ساسون الذي سوف نتناول قصته في هذا الملف سنة 1939، وترك خلفه إرثا من أسرار مهنة الخياطة التي عُهد إليه بها عبر جيلين من أجداده، قبل أن تنتقل مهنة «خياط سيدنا» إلى عائلة بوطبول.
انتشرت إشاعات كثيرة في أوساط القصر مفادها أن العائلتين معا في صراع، بسبب هذا الانتقال، وأن تداعياته انتقلت إلى الجيل الجديد من الورثة. لكن ألبير ساسون يعلق على هذا الأمر بالقول: «ثمة كلمة أخيرة موجهة أساسا إلى ألبير الذي كتب عن وجود قطيعة في سلسلة خلافة خياطي السلطان، مبرهنا على ذلك بتسلم آل بوطبول المهمة من آل ساسون. أعتقد أن هذا الحكم ضرب من المجاز الصرف، لا يعكس كل تداعيات انتقال هذه المهنة من سلالة لأخرى تربطهما أواصر القرابة العائلية فألبير نفسه، وإن لم يرث مهنة خياطة الأثواب، يظل خياطا بارعا للتواصل الاجتماعي والإنساني، إنسانا ممتلكا لفن وطريقة اكتشاف آفاق التعاون والتآزر بين أشخاص وافدين من عوالم مختلفة، وبارعا في نسج العلائق بين ذوي النيات الحسنة من أجل تنمية مصالح الوطن الذي ظل مرتبطا به بكل جوارحه. وهذا كذلك عربون وفاء وتضامن لا بد من تحيته».
+++++++++++++++++++++++++++++
سالم وأبراهام ساسون.. سيرة أب وابنه في خدمة الحسن الأول
منذ سنة 1877، اشتغل سالم ساسون في البلاط الملكي، إذ كان معروفا أن هناك العديد من الخدم داخل القصر من اليهود. وهكذا فقد وجد السلطان الحسن الأول نفسه عندما وصل إلى الحكم سنة 1873، وريثا لفرق كاملة من الخدم والحشم والحرفيين داخل القصر الملكي.
وكان من بين هؤلاء سالم ساسون، الخياط التقليدي الذي كان يصحبه والده وهو طفل إلى القصر الملكي في فاس. والد سالم ساسون كان خياطا للمولى محمد الرابع، لكن هذه المهمة سوف تصبح مترسخة أكثر مع الابن سالم، الذي خلف أباه وأصبح خياطا تقليديا معتمدا لدى القصر الملكي بفاس، وكان يتولى أيضا مهمة خياطة ملابس الوزراء وأعيان المدينة، الذين ترددوا عليه، بحكم أنه كان الخياط المفضل للمولى الحسن الأول.
رغم التميز الكبير الذي حازه سالم ساسون، إلا أن وفاته عجلت بإنهاء مساره المهني في قلب القصر الملكي، وخلفه أبناؤه من بعده.
يقول حفيده ألبير متحدثا عن هذه المحطة من تاريخ العائلة، في مذكراته: «بعد وفاة سالم ساسون، تساءل السلطان ما إن كان للمتوفى أبناء من بينهم واحد أهل ليحل محله في الخدمة بالبلاط، ليعلم أن سالم خلف ثلاثة أولاد، أولهم حبر وثانيهم موثق، أما ثالثهم فلم يكن يتجاوز عمره سبعة عشر ربيعا بعدُ، ولا يزال يتعلم فنون الخياطة ولا يتقن الحرفة تماما. سلطانة أزويلوس، التي كانت ترتب لزواج ابنتها حسيبة مع الخياط المتمرن أبراهام، لم تتقبل أن يفلت المنصب من هذا الأخير. لذا توجهت ذات جمعة، يوم الصلاة، لتقديم ملتمسها إلى السلطان. لم تعترض المرأة أدنى مشكلة لولوج البلاط والمثول بين يدي الحسن الأول، هي التي كانت تقدم خدمات إلى زوجاته. أكدت للسلطان أن أبراهام خياط كفء ومتقن لمهنته، ليكلل مسعاها بالنجاح، إذ لم يكد يمر يومان على اللقاء حتى استدعى العاهل الشريكين، يهودا أزولوس وشالوم بنسوسان، ليأمرهما بتوظيف أبراهام ساسون في المنصب الشاغر عقب وفاة أبيه، بعد اختباره بالطبع».
بالعود إلى الوالد، سالم ساسون، فإن هذا الأخير خلال حياته، كان قد أبدع في خياطة جلابيب السلطان إلى درجة أن بعض الدبلوماسيين الأجانب كانوا قد أثنوا عليها، بل وطلبوا معلومات عن الخياطين الذين كانوا يشرفون على خياطة اللباس الرسمي لجلالة السلطان، ليتلقوا الرد من القناصلة الذين كانوا يتمركزون في طنجة الدولية، مؤكدين لهم أن ساسون هو الخياط المعتمد لدى السلطان.
وحتى بعد وفاة سالم ساسون، وتقلد ابنه أبراهام لمسؤولية خياطة ملابس السلطان والإشراف عليها بنفسه، فقد أوكلت إليه، في أولى المهام التي مارسها بعد توظيفه، خياطة ثوب مظلة السلطان الحسن الأول الشهيرة، والتي ظهرت في عدد من الرسومات والصور التي وثّقت لاستقبالات وفود أجنبية في قصر فاس. يقول الحفيد ألبير ساسون إن مهمة خياطة المظلة الملكية كانت أول مهمة توكل إلى جده وهو صغير السن، وعندما برع فيها أمر السلطان بأن يُعين معه مساعدون آخرون يترأسهم بنفسه. كما أن أبراهام بقي خياطا معتمدا لدى القصر، بعد وفاة المولى الحسن الأول ومجيء المولى عبد العزيز وبقي حتى بعد مغادرة هذا الأخير للسلطة، واستمر خياطا وحيدا معتمدا لدى القصر، خصوصا بعد وفاة شريكيه اللذين وظفهما المولى الحسن الأول لمساعدته، واستمر في ممارسة مهامه إلى حدود سنة 1912، وظل يقيم في منزل بفاس، خصص داخله مكانا لخياطة الملابس الملكية، إلى أن انتقلت السلطة إلى الرباط بعد توقيع معاهدة الحماية، لكي ينتقل بدوره إلى العاصمة الجديدة للحكم رفقة أبنائه، وتستمر معه قصة توارث وظيفة «خياط السلطان» وتنتقل إلى أبنائه.
بوطبول.. محمد الخامس يخصص له محلا للخياطة وسط القصر
يقول ألبير ساسون في هذه المذكرات: «في سنة 1940، كان ميمون بوطبول ابن عم حاييم بوطبول الذي لم يعد شريكا له منذ سنة 1936، يتوفر على متجر داخل القصر الملكي بالرباط. ونظرا إلى مكانته لدى السلطان سيدي محمد الذي يعرفه جيدا منذ كان مراهقا، فقد كان مسموحا له بالتزود بكمية السكر اللازمة لتجارته ولاستعماله الشخصي، دون الخضوع لنظام الحصص.
كان أبناء حاييم بوطبول (1883-1967)، رفاييل ومسعود وآرون، يساعدون والدهم في عمله كخياط للسلطان وأفراد العائلة الملكية. أما ابنه البكر جوزيف المزداد في 5 يناير 1906، والمستخدم في إحدى الشركات الخاصة، فكان يمد يد العون على المستوى الإداري، كما ربط علاقات متينة مع الكاتب الخاص للسلطان. وفي البدء، وقبل الالتحاق بوالده في العمل، كان رفاييل المولود سنة 1908، صائغ مجوهرات، وسيصبح لاحقا الخياط الرئيسي لمحمد الخامس والحسن الثاني. أما مسعود المزداد في 1912، فكان كذلك حلاق العاهل، لأن الحلاقة مهنته الأصلية».
يواصل ألبير ساسون شرحه في صفحات هذه الشهادة التاريخية على وجود عائلتين، هما بوطبول وساسون، في ظل الملك، قائلا: «أما ميمون بوطبول، العامل هو الآخر في خدمة القصر، فعلاقته مع العائلة الملكية كانت مطبوعة بالثقة والحميمية. ومثله مثل ابن عمه حاييم، وأبراهام ساسون، كان يحترم بطقس الفرحة التقليدي القاضي بإهداء السلطان وعائلته أطباقا منتقاة من المطبخ اليهودي المغربي. وبهذه المناسبة، كانت أم سيدي عبلة، زوجة سيدي محمد منذ سنة 1926، وأم خمسة من أطفاله الستة، تستقبل آل بوطبول في إقامتها وتدعوهم إلى مشاركتها الأكل، في احترام تام لطقوس الطعام اليهودية. وكل عيد عرش، يوم 18 نونبر، كان المسؤول عن الأطعمة بالقصر يُهدي العائلة، بأوامر دقيقة من السلطان، كميات كبيرة من الحلوى».
ورغم أن أبناء بوطبول وساسون كانوا من عائلتين تُتقنان الحرف، إلا أنهم جميعا اكتووا بنار السياسة، خصوصا في أربعينيات القرن الماضي، ولم يشفع لهم قربهم من السلطان لكي ينالوا نصيبهم من أزمات التحولات الدولية، سيما بعد الإنزال الأمريكي في المغرب، حيث كان ألبير ساسون وقتها طفلا يتذكر كيف أن شوارع الرباط كان تعج بالجنود الأمريكيين، وهو ما تزامن مع فترة اقتصادية عصيبة تمر بها أسرته.
قصص من زمن مولاي يوسف بالرباط
«وبالإضافة للأمراء، كان مولاي يوسف شديد الاهتمام بابن حاجبه اعبابو الذي كان معلما له أيضا، وكلما أمر أبراهام بخياطة ملابس للأمراء، إلا وحصل ابن الحاجب على أزياء شبيهة. الأمر نفسه ينطبق على الهدايا، وقد روى لي والدي أنه رأى، وهو في السادسة من العمر، الأمراء وابن اعبابو يركبون سويا دراجات نارية حمراء اللون مستوردة. وفي الحقبة نفسها، تبوأ محمد المعمري مكانة مهمة في البلاط، الذي كان معلما لمولاي يوسف، حيث درسه اللغة الفرنسية، وحريصا على العناية الدائمة به، وقد مكث في خدمته طويلا كمسؤول عن التشريفات. في 1927، توفي مولاي يوسف في فاس بغتة وعمره 48 سنة، بعد حكم دام 15 عاما، وذلك سنة تقريبا بعد نهاية حرب الريف (1921 – 1926). ومعلوم أن الريف سلسلة جبلية بشمال المغرب تمتد بمحاذاة ساحل البحر الأبيض المتوسط على شكل قوس واسع من مضيق جبل طارق غربا حتى مصب نهر ملوية شرقا، مطلة في الجنوب الغربي على سهول الغرب وفي الجنوب الشرقي على ممر تازة. وتتميز المنطقة بشح الموارد وبتضاريسها الوعرة، ومع ذلك فكثافتها السكانية من بين الأكبر بالمغرب».
الكلام هنا دائما للابن ألبير ساسون، وهو يحكي عن الفترة «الذهبية» التي اشتغل فيها جده وأعمامه في الرباط قادمين إليها من فاس، ليشتغلوا إلى جانب المولى يوسف، الذي كان يعرف جيدا مهارة أبناء ساسون وأبناء عمومتهم وأصهارهم، بوطبول، في خياطة اللباس التقليدي المغربي.
لم يكن سهلا على خياط القصر أن يوفق بين طلبات بعض الوزراء والأعيان الجدد في الرباط، والذين كانوا يطلبون منه خياطة الملابس المغربية لصالحهم ولصالح زوجاتهم أيضا. وفي هذا الصدد، بدا واضحا أن آل ساسون كانوا يمارسون نوعا من السياسة، ولا يخيطون لأي شخصية، إلا إذا كانت قريبة فعلا من السلطان وتحوز على الثناء الملكي.
المثير في قصص أعيان الرباط على عهد المولى يوسف، أن بعضهم لم يكونوا على وفاق مع القصر، بحكم أن الحاشية كانت في أغلبها تنحدر من فاس، بينما كان أعيان الرباط وسلا يحتفظون بذكريات قديمة عن توتر في العلاقات بينهم وبين وزراء السلطان، عندما كانت فاس عاصمة إدارية للبلاد.
وهكذا فقد كان خياط السلطان كمن يمشي فعلا على الألغام، إذ يتعين عليه ألا يخيط باعتباره خياطا معتمدا لدى السلطان، إلا لمن يرضى عنهم القصر، خصوصا وأن بعض العائلات في الرباط كانت تتنافس في ما بينها في الثراء، وكان استقدام خياط القصر لكي يخيط لأبناء تلك العائلات ملابس المناسبات الرسمية، ضربا من الترف الذي كانوا يسعون وراءه جميعا.
أشار ألبير في هذه المذكرات إلى أن زوجات آل ساسون كن خياطات ماهرات أيضا، ولا تقل مهارتهن في الخياطة عن الرجال. وتكلفن بإعداد ملابس نساء القصر الملكي، وكن يترددن باستمرار على جناح نساء القصر، في المناسبات الدينية والوطنية، وهو الطقس الذي استمر بعد وفاة السلطان مولاي يوسف وانتقال السلطة إلى الملك الراحل محمد الخامس.
يقول ألبير ساسون إن أبراهام كان يعرف مولاي محمد بن يوسف منذ طفولته، واستقبل خبر تنصيبه سلطانا للمغرب سنة 1927 بفرح عارم.
هكذا اكتوى رعايا السلطان بنار الإدارة الفرنسية
في نهاية ثلاثينيات القرن الماضي، والسياق الدولي وقتها كان عنوانه تحامل مغرض على اليهود في أوروبا قصد تهجيرهم، على خلفية تداعيات الحرب العالمية الثانية وتهجير اليهود قسرا من ألمانيا، كان الملك الراحل محمد الخامس قد أبان عن موقف شجاع تمثل في حماية اليهود المغاربة.
يقول ألبير ساسون متحدثا عن هذا السياق: «شخصيا، أكد لي والدي وأقرباء آخرين، بالإضافة إلى صهري ألبير بنسيمون الذي شغل منصب رئاسة مجلس الطائفة اليهودية في الرباط، أنهم لاحظوا جميعا بالملموس في إطار معيشهم اليومي، النتائج المترتبة على مجهودات السلطان قصد التصدي لتطبيق الإجراءات التمييزية ضد اليهود، ومن جهتهم كان معاونو العاهل يواصلون عمله الرامي إلى تدارك التنكيد والشطط.
وحدث أن تعرض أب لأربعة أطفال للطرد من منزله ومن عمله مثلما حدث بالضبط لأبي لما تم فصله من الشركة المغربية، وهي شركة كان مقرها الاجتماعي يقع في زنقة طهران بباريس. طلب الضحية مساعدة حاييم بوطبول، فعرض هذا الأخير القضية أمام أنظار السلطان الذي وفر لهما فرصة لقاء المراقب المدني. وحين استقبالهما، وبخ الموظف الفرنسي حاييم بوطبول قائلا: «أما أنت فإنك خياط جلالته، وهذا، من يكون؟». بعد استعراض حاييم للملتمس موضوع الزيارة، جاء جواب المراقب المدني ليكون له وقع شفرة المقصلة: «سأرى ما الذي أستطيع القيام به، وسأخبركما بذلك». وبالطبع لم تترتب على اللقاء أدنى نتيجة.
وفي خمسينيات القرن الماضي، بحسب محاضر الإقامة العامة الفرنسية في الرباط، والتي كانت تُجمع من مراكز الشرطة في مختلف المدن المغربية، فإن اليهود المغاربة كانوا ضحايا اعتداءات حركها منتمون لحركات فرنسية متطرفة، أو عناصر يُحركها الفرنسيون أنفسهم.
كان الفدائيون، مع نهاية شهر مارس وبداية شهر أبريل، قد فطنوا إلى أن تفجير الحافلات أو الشاحنات يخلف أضرارا كبيرة. وعلى إثر تكاثر هذا النوع من العمليات في أكثر من مدينة، فإن رجال البوليس الفرنسي تلقوا تعليمات باعتقال كل المغاربة الذين كانوا يعملون في مجال تصليح الشاحنات، وهي المهنة التي تعلموها مع ميكانيكيين فرنسيين كانوا يفتحون «كاراجات» في المغرب. بالإضافة إلى عائلات يهودية، خصوصا في مدينة آسفي، كانوا يتوفرون على أساطيل كاملة من الشاحنات، وكثيرا ما كان يستهدفها مقاومون ينتمون إلى تنظيمات سرية من مختلف المدن. حتى أن تاجرا يهوديا من أثرياء آسفي ترك كل شيء خلفه مع صيف سنة 1955، وهاجر رفقة أسرته إلى كندا، بعد أن أصبح عاجزا عن إصلاح حافلات في ملكيته، تعرضت لرشق كثيف بالحجارة في طريق مراكش، وفتحت الشرطة الفرنسية تحقيقا في الموضوع واعتقلت أبناء دوار بكامله للوصول إلى منفذي الهجوم، ورغم أن التحقيقات استمرت لشهر كامل، إلا أن البوليس لم يتوصلوا لهوية المنفذين، ورغم التعذيب الذي تعرض له أبناء الدوار، إلا أن الأمنيين لم يحصلوا منهم على الأجوبة التي يريدونها. وفي الأخير اقتنع صاحب الشاحنات أن الفاعلين لا يمكن أن يكونوا من شبان الدوار، وتقدم بتنازل للبوليس الفرنسي ليُطلق سراح الشبان في النهاية. وتوالت أحداث أخرى أكدت بما لا يدع مجالا للشك، أن متطرفين فرنسيين كانوا وراء أحداث مشابهة واعتداءات ممنهجة في كل المدن المغربية ضد اليهود المغاربة من حرفيين وتجار. وتأكد في تقارير أخرى أن وضع اليهود المغاربة صار مقلقا بعد 1953، السنة التي نفي فيها الملك الراحل محمد الخامس، وسُجل ارتفاع في حالات التضييق الفرنسي على أغلب التجار والحرفيين اليهود، ومن يتعاطف معهم من بقية المغاربة.