شوف تشوف

الرأي

خمس نساء عالمات

قد نتعجب إذا عرفنا أن (روزاليند فرانكلين ROSALIND FRANKLIN)، كانت أول من كشف النقاب عن تركيب الشيفرة الوراثية و(دوروثي كروفوت هودجكن DOROTHY CROWFOOT HODGKIN) التي طورت تقنية معرفة التركيب الذري للبنسلين والأنسولين، و(باربارا مك كلينتوك BARARA McCLINtock) التي طرحت فكرة ثورية عن ظاهرة (الطفرة Mutation) الجينات وتغير صفات الكائن مع الزمن.
أما قصة فرانكلين فحزينة تروي الخيانة في العمل وسرقة الجهود؛ فعندما شقت الطريق إلى معرفة تركيب (الكود الوراثي) عند الإنسان من خلال تطوير تقنية دراستها بالأشعة السينية، خانها صديقها في العمل (موريس ويلكينز MAURICE WILKINS)، فتطوع بنقل عصارة جهدها سرا إلى رجلين منافسين، هما الثنائي (جيمس واتسونGAMES WATSON وفرانسيس كريكFRANCIS CRICK)، اللذان حصدا ثمرة عملها بقطف جائزة نوبل للكيمياء الحيوية عام 1962م، وتسجيل اسميهما في التاريخ أنهما كانا أول من سبق في إماطة اللثام عن تركيب الخارطة السرية للخلق (الحامض النووي) في نواة الخلية، كانت أثناءها روزاليند فرانكلين قد ماتت بسرطان الثدي عن عمر 37 سنة. لم يكتف (جيمس واتسون) بالاستفادة من عمل السرقة، بل لاحقها إلى القبر في كلمات عجيبة تخترقها في أهم خصوصية لها كأنثى: مع أنها كانت فاتنة لم تكن لتعتني بنفسها كامرأة قط، لا في ملابسها ولا حتى بأحمر الشفاه! ولكنه اعترف في آخر كتابه بأن معلومات الكشف الخطير تسربت إليه من يهوذا الخائن.
وأما (دوروثي هودجكن) التي درسَّت في أوكسفورد وكان من تلامذتها أول رئيسة وزراء هي (مارغريت تاتشر)، فكان لها دور اكتشاف البناء الذري للمواد الكيمياوية الحيوية التي سمتها (البلورات الأنيقة الجميلة)، مما قاد إلى الإمساك بسر تصنيعها لاحقا كما في الأنسولين الذي قامت بدراسته لمدة 35 سنة، أو الفيتامين «ب12» الذي اشتغلت عليه لمدة سبع سنوات، وكان نقصه يقود إلى فاقة الدم الخبيثة القاتلة، ولم يمنعها الروماتيزم الخبيث الذي شوه يديها من متابعة عملها، فوصلت إلى معرفة تركيب الكوليسترول المركب الأساسي للهرومونات الجنسية، والفيتامين «D» المسؤول عن كساح العظام عند الأطفال، وفي النهاية تم الاعتراف بها، فمنحت جائزة نوبل للكيمياء عام 1964 وكانت المرأة الثالثة في تاريخ الجائزة. ووصلت في خاتمة حياتها إلى رئاسة (اتحاد العلماء) عام 1975م، وأمضت بقية حياتها تكافح ضد التسلح النووي، لتودع العالم عام 1994م.
أما الثالثة (مك كلينتوك) فكانت ثالث ثلاثة من رواد علم الوراثة، بجانب (غريغوري مندل) و(طوماس هانت مورغان THOMAS HANT MORGAN). فأما الأول فوضع قوانين الوراثة الثلاثة عام 1865م، وأما الثاني فاستطاع أن يربط ماديا بين الصفات الوراثية والكروموسومات، ولكن فكرة (مك كلينتوك) كانت عن حركة الجينات، فهي تقفز من مكانها فتغير صفات المخلوق، وهي ماعرفت بـ(الطفرة MUTATION)، وهذا قرَّب إلى فهم نظرية التطور أكثر، عن خلق مبرمج يمشي خلقا من بعد خلق، يزيد في الخلق ما يشاء، وبقيت مك كلينتوك تمارس نشاطها العلمي إلى سن التسعين، بعمل سبعة أيام في الأسبوع لمدة 12 ساعة يوميا في عشق لا يذوي من حب المعرفة، في مخبر (كولد سبرنج) بولاية نيويورك (COLD SPRING HARBOR LABORATORY).
وصفت السيدة كلينتوك بأنها كانت (ظاهرة إبداعية) تشك كثيرا وتتنبأ أكثر، ووضعت قوانين الجينات دوما تحت وابل من الأسئلة المتشككة، واعتبرت أن الوراثة ما زالت حافلة بالأسرار لم تبح بكل ما في صدرها، وكانت محقة في ذلك، عندما اكتشفت في نبات الذرة ظاهرة الطفرة، فحققت بذلك أعظم إنجازات القرن. قالت مك كلينتوك إن الجينات لا تجلس متجمدة كتلا ثابتة كحبات اللؤلؤ في جيد حسناء، بل هي وبالصدفة تتزحزح من موضعها من وقت لآخر وبطريقة مجهولة، وهو ما يغير المعلومات الوراثية، وبهذا الطرح عارضت الجو العلمي جملة وتفصيلا بتحدي مسلمة رئيسية من ثبات الجينات.
كانت مك كلينتوك راديكالية ولا تبحث عن المجاملات في العمل العلمي، ومصممة ووحيدة، مما عرضها (كأنثى) أن لا تُفهم وتُرفض وتُتهم أنها لا تمشي مع السياق العام. وبقيت أفكارها حول الطفرة لا تؤخذ بعين الاعتبار، حتى تقدم اثنان من العلماء (الذكور كذا) عام 1961م هما (فرانسوا جاكوبFRANCOIS JACOB وجاك مونود JACQUES MONOD) بموديل جديد حول توجيه الجينات عند البكتيريا، في شبه كبير لطرح السيدة مك كلينتوك حول نظام الطفرة، وبعد أربع سنوات عام 1965 م نال الاثنان جائزة نوبل عليها. ولم يستوعب العالم حتى ذلك الوقت الطرح المثير والجريء الذي كانت قد سبقت فيه مك كلنتوك بمراحل، لتوصف ووصفت بأنها تستخدم طرقا بالية قديمة لوضع استنتاجاتها.
كانت مك كلينتوك متفردة باقتناعها، وبحدس خاص تستخلص عصارات هامة من وحي الطبيعة تتجلى لها في لحظات العمل المخبري. وتطاول الوقت حتى السبعينات من القرن الماضي، حتى بدأت تشد الانتباه بأفكارها. وفي عام 1983م قبل موتها بتسع سنوات وعمرها يومها 81 سنة، منحت متفردة وللمرة الأولى في تاريخ النساء جائزة نوبل للطب، عن عمل كانت قد نشرته قبل 36 سنة في عام 1947م. واليوم تعتبر مك كلنتوك بجانب مندل ومورغان هنت أحد الأدمغة العظمى في علم الوراثة.
وقبل فترة قصيرة قامت عالمتان أمريكيتان هما (إليزابيث بلاك بورن وكارول جايدر) باختراق معرفي مثير عن الكشف عن أنزيم الموت عندنا؛ فقد عُرف أن حياتنا محدودة بعدد معين من الانقسامات الخلوية، ومع كل انقسام تتآكل نهاية الكوموسوم الذي يحفظ أسرار بناء الجسم، وبتواتر الانقسامات تستهلك النهاية الحافظة للكروموسوم، فينفرط عقده ويعجز عن نقل أسراره وإعادة طباعتها في مطابع الخلية (الريبوسوم)، في وثيقة اضطربت سطورها لا تصلح للحياة.
اهتدت العالمتان إلى ما يعمل ضد الاهتراء، وعرف أنه أنزيم (التيلوميراز) يتكاثر في أجسام الأجنة وأنسجة السرطان، فإذا حقنت به الخلايا تابعت انقسامها ونشاطها بدون مظاهر شيخوخة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى