خطة دي ميستورا.. النار الكاذبة مجددا
إذا صحّ أنّ ستافان دي ميستورا، المبعوث الأممي إلى سوريا، سوف يتولى بنفسه تسمية ثلث حصص المعارضة السورية في ما تسمّيه خطته «لجان الحوار»؛ فما الذي يحول دون أن يكون هو نفسه، أيضاً، الناطق باسم المعارضة، في الحوار مع النظام السوري؟ ليست هذه مزحة، أو سخرية مبطنة، خاصة إذا تذكّر المرء أنّ تلك اللجان هي العمود الفقري، التنفيذي على الأقلّ، في الخطة بأسرها: مجموعة عمل أولى تبحث السلامة والحماية، وثانية لبحث القضايا السياسية والدستورية، وثالثة تختص بالجيش والأمن والإرهاب، ورابعة تتناول المؤسسات العامة وإعادة البناء والتنمية. وما الذي يمنع دي ميستورا أن يكون، ثالثاً، ممثّل الثلث الثالث في الحوار، بعد النظام أو المعارضة، أي «المجتمع المدني»، أو ينوب عنه كلياً… ببساطة!
هذه محض عيّنة على عقم الخطة التي طرحها الدبلوماسي السويدي ـ الإيطالي، وتوافق عليها مجلس الأمن الدولي، ولم يكن اعتباطاً، بالطبع، أنّ روسيا والصين لم تعترضا على بنودها، حتى ضمن مفهوم البيان الرئاسي الذي يُعدّ أقصى العقم في سلسلة إجراءات المجلس التقليدية. وإذْ تبدأ العيّنات الأخرى من مفهوم «المعارضة» في حدّ ذاتها، ومَن تمثّل، ومَن يقبل أصلاً بتمثيلاتها، وكيف للقوى المسلحة على الأرض السورية أن تعتبرها مخوّلة بالتفاوض نيابة عنها؛ فإنها لا تنتهي عند العيّنة الأشدّ إهانة لتضحيات السوريين، أي انطلاق دي ميستورا من نقطة «داعش» و«النصرة» بوصفهما جوهر «الأزمة» في سوريا، وليس نظام بشار الأسد ببراميله المتفجرة وأسلحته الكيميائية وطائراه الحربية ودباباته وصواريخه ومدفعيته.
وهكذا فإنّ دي ميستورا لا يستأنف نقاط التعثر التي انتهت إلى فشل سلفَيه، كوفي أنان ذي الباع الطويل في التفاوض الدبلوماسي حول النزاعات المستعصية، وراعي مؤتمر جنيف 1؛ والأخضر الإبراهيمي، الذي مُدّدت ولايته، وشهد انعقاد جنيف 2؛ فحسب؛ لكنه، في المقابل، يبدأ من افتراض صلاحية النقاط ذاتها التي تعثرت، أو يعيد إنتاجها، تماماً على مبدأ تدوير مادتها الخام صناعياً، ثمّ الاتكاء على منتوجها (الذي يريده أن يبدو جديداً، صالحاً، وناجعاً) لبلوغ النتائج ذاتها التي انتهت بالإبراهيمي، وقبله أنان، إلى استسلام تامّ برفع الذراعين. مدهش، إلى هذا، أنه يتغافل عن أفضل ما أنجزه أنان، واعتمد عليه الإبراهيمي، أي النقاط الستّ الشهيرة؛ رغم أنها باتت أشبه بمرجعية عليا، لأنها في الواقع تظلّ الوحيدة عملياً، لتذكير حلفاء النظام في مجلس الأمن الدولي بأنهم ذات يوم وافقوا على صيغة ما للحلّ، تتحدث عن مرحلة حكم انتقالية.
فإذا صحّ أنّ النقطة الأولى في مشروع أنان، التي تنصّ على «الالتزام بالتعاون مع المبعوث في عملية سياسية تشمل كل الأطياف السورية لتلبية التطلعات المشروعة للشعب السوري وتهدئة مخاوفه»، كانت محلّ نزاع لأنّ منطوقها ينتهي إلى تفسيرات متناقضة حول مصير بشار الأسد، وصلاحيات مؤسسة الرئاسة خلال المرحلة الانتقالية؛ فإنّ النقطة الثانية تتناول «الالتزام بوقف القتال والتوصل بشكل عاجل إلى وقف فعال للعنف المسلح بكل أشكاله من كل الأطراف تحت إشراف الأمم المتحدة لحماية المدنيين وتحقيق الاستقرار في البلاد». ألم تكن فكرة دي ميستورا عن الهدنة في حلب، أو «حلب أوّلاً» كما شاء البعض تصنيفها، تستكمل هذه النقطة الثانية، إذا لم تكن محض صياغة أخرى لمضمونها الحرفي؟ أليس تنفيذ هذه النقطة هو محور عمل المجموعة الأولى، والثالثة، وربما الرابعة أيضاً؛ في ما اقترحه دي ميستورا مؤخراً حول مهامّ المجموعات؟ والنقطة الثالثة، المرتبطة بهذه الثانية، والتي تنصّ على «ضمان تقديم المساعدات الإنسانية في الوقت الملائم لكل المناطق المتضررة من القتال، ولتحقيق هذه الغاية وكخطوات فورية قبول وتنفيذ وقف يومي للقتال لأسباب إنسانية»؛ أليست خلاصة عمل مجموعات دي ميستورا، ولجانه، كافة؟
وفي مستهلّ مهمته شاء دي ميستورا قلب المعادلة، أو المعادلات جمعاء، رأساً على عقب أحياناً؛ لأنه استقرّ على قراءة شخصية ـ لم يعلنها، مرّة واحدة، رغم الصخب الذي اكتنف تطبيقه لها في تحركاته ـ مفادها أنّ المسألة السورية ليست في الجوهر انتفاضة شعب ضدّ نظام استبدادي، لم يتورع عن استخدام أيّ سلاح، وكلّ سلاح، ضدّ الشعب؛ بل هي وجود منظمات إرهابية يتفق «المجتمع الدولي» على ضرورة محاربتها، من جهة؛ وأنّ انقسام سوريا أمر واقع على الأرض، من جهة ثانية، يجيز له التفاوض الانتقائي مع مَن يشاء، كيفما يشاء: النظام، القوى المسلحة بأطيافها كافة، المعارضات السياسية الداخلية والخارجية، ثمّ «المجتمع المدني»… كأطراف ذات استقلالية، ضمن الانقسامات، وفي ضوء معطيات الوزن على الأرض.
بهذا المعنى، أيّ معنى ـ حسب قناعة دي ميستورا ـ في الحديث عن رحيل الأسد، أو حتى دوره وصلاحياته وموقعه، خلال المرحلة الانتقالية؟ واستطراداً، إذا ظلّ هذا السؤال ساري المفعول، ما الجدوى من إحياء نقاط أنان الستّ، أو مرجعيات جنيف 1 وجنيف 2، إذا كانت قد فشلت؟ أليس من الخير إعادة إنتاجها، حتى من باب اللعب في الوقت الضائع، والإيحاء بحضور «المجتمع الدولي» إياه، في اقتراح الحلول، وتعليق الآمال عليها، قبيل تحميل الأطراف مسؤولية فشلها؟ أكثر من هذا وذاك، ما فائدة الإصرار على أنّ المبعوث الأممي يمثّل جامعة الدول العربية أيضاً، ما دامت المرجعيات انقلبت هكذا، أو بلغت هذه الحال بعد فشل أنان والإبراهيمي، فباتت الجامعة العربية عبئاً يثقل كاهل دي ميستورا بدل أن يزوّده بسلطة تفاوض إضافية؟
وهكذا فإنّ خطة دي ميستورا لن تكون أفضل حظاً من خطط سلفَيْه، أولاً؛ ويصعب، ثانياً، أن تنفصل عن طبيعة الفعل، أو الفاعلية، التي ميّزت عمل منظمة الأمم المتحدة بصفة عامة. محتوم، بذلك، أن تبدأ أولى مظاهر التعثر، أو العرقلة المقصودة، من داخل اجتماعات مجلس الأمن الدولي ذاته؛ ثمّ تمرّ بالوقائع على الأرض (والتفاصيل كثيرة، لأنها ملاعب كلّ الأبالسة)؛ ولا تنتهي عند مساواة القاتل بالقتيل، والجلاد بالضحية؛ إذا وضع المرء جانباً أفانين المراوغة التي أتقنها النظام خلال تجارب سابقة، وسيمارس ما هو أخبث منها؛ فضلاً عن الإعلان المبكر، والتعليق الوحيد تقريباً على خطة دي ميستورا: لا انتخابات رئاسية تحت إشراف الأمم المتحدة، لأنّ الأسد «منتخب» أصلاً، و«شرعي»! وإلى جانب مخاتلة النظام، التي ذاق مرارتها أنان والإبراهيمي قبل دي ميستورا، هنالك تلك النواة القاسية داخل حلقة الأسد الأضيق، والتي سوف تظلّ تعتمد شعار «الأسد، أو نحرق البلد»، ولن يوافقها أيّ «حلّ سياسي»، كيفما كان.
وليس جديداً أن يتنبأ الكثيرون بأنّ أشغال دي ميستورا سوف تلقى مصير أشغال سلفَيه، ليس لأنّ أزمنة المعجزات قد انطوت، خاصة في عالم السياسة، وعلى امتداد تاريخ منظمة الأمم المتحدة ذاتها، وحين تكون الملفات مضرجة بدماء مئات الآلاف من الأبرياء، ومادّتها مئات الآلاف من المعتقلين والمفقودين والمغيبين، وملايين المشردين في أربع رياح الأرض، وانتفاضة شعب سدّد أبهظ الأثمان، فحسب؛ بل كذلك لأنّ الانطلاق من بقاء النظام المسؤول عن هذه الأهوال جميعها، إنما يضع العربة ـ وبالتالي المدفع والقاذفة وصاروخ الـ«سكود» والبرميل المتفجر، والسلاح الكيميائي… ـ أمام حصان الحلول. وأيّة خطة لا تبدأ من رحيل الأسد وحلقة السلطة الأضيق من حوله، وطيّ صفحة نظام «الحركة التصحيحية»، هي محض طبخ على نار كاذبة، لحصى المعجزات الزائفة.