خطة إعمار ضد الإقصاء
من بين أهم التقارير الصادمة للوعي الجماعي، أن يفتح المغاربة عيونهم على واقع سلبي، يتمثل في أن حوالي ثلث الساكنة يعيشون في ظروف قاسية تنتفي فيها شروط الكرامة والعدالة الاجتماعية. لكن اللافت في هذا التشريح الذي عرى تناقضات السياسات الاجتماعية، أنه يصدر عن الملك محمد السادس الذي شكلت جولاته التفقدية لربوع البلاد ركنا محوريا في ملامسة الواقع المحلي، بلا رتوش أو مساحيق.
كان من نتاج تلك الزيارات التي شملت أبعد نقطة نائية، أنها استخلصت آليات المبادرة الوطنية للتنمية البشرية قبل حوالي عشر سنوات، كونها استهدفت دعم المشاريع الصغيرة المدرة للدخل، والتخفيف من حدة الفقر والهشاشة، وتجذير الشعور بعدم الإقصاء، إن لم يكن من خلال إقامة المرافق والتجهيزات الكبرى، فأقله أن يكون في تبسيط الإجراءات واتساع نطاق الخدمات التي تشمل البنيات الاجتماعية.
أحدثت المبادرة في حد ذاتها نقلة نوعية في منهجية التفكير والتركيز على مظاهر الخصاص الناجم عن استشراء الفوارق الأكثر تباعدا بين الفئات والمجالات. ولم يراوح السؤال مكانه: هل واكبت المبادرات الخاصة والسياسة الاجتماعية للسلطة التنفيذية والتزامات دعم الديمقراطية المحلية هذا التوجه؟
عشر سنوات كافية لاستخلاص المواقف، وليس أقلها أن البعد الاجتماعي في رهانات التنمية لم يتحقق. من جهة لأن الاستثمارات ارتهنت لهاجس الربح المادي والاتجاه نحو المناطق التي تتوفر على التجهيزات الأساسية، على رغم طرح تحفيزات مشجعة. ومن جهة ثانية لأن إشكاليات توزيع المشاريع ظلت قائمة، إلى درجة أن أعدادا من الموظفين يتحفظون على الإقامة في المناطق النائية، خصوصا في قطاعات التعليم والصحة وانتشار الإدارة في قطاعات عدة.
وإذا كانت مبررات البعض حيال انعدام المرافق والخدمات، تجعل انتشار الموظفين يواجه صعوبات حقيقية، فإن ثمة نظرة سلبية شائعة تربط بين مناقلات الموظفين إلى المناطق النائية بتعرضهم لعقوبات تأديبية، ما يدفع إلى الاعتقاد بسيطرة نظرة شبه استعلائية. وبالتالي فإذا كان ينظر إلى هذه القضية من زاوية التأديب، فمصدر ذلك أنها تعاني من خصاص كبير. لكنه في كل الأحوال لا يبرر مثل هذا التقسيم الذي يعود بالبلاد إلى سياسة المغرب النافع وغير النافع.
أبعد من هذا التشخيص أن الملك محمد السادس في خطاب العرش وضع اليد على مكامن الخلل في التجربة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بجرأة نادرة، كونه أقر بأن حوالي ثلث السكان يعانون الفقر والهشاشة والتهميش وغياب المرافق والتجهيزات، ولم يستثن من ذلك أي جهة شمال البلاد أو شرقها، جنوبها أو وسطها في أعماق الواقع الحقيقي المقلق. أكان ذلك على صعيد رفض استمرار سياسة الفوارق القائمة، أو في نطاق استيعاب مخاطر الهشاشة والحرمان واليأس التي تدفع إلى السلبية والمغامرة. كما يتجلى ذلك في نزيف الأرياف جراء غياب المرافق، أو اتساع مجال الهجرة نحو المدن، وزيادة رقعة البطالة والسكن العشوائي ومظاهر العنف والانحراف.
أن يدق العاهل المغربي ناقوس الخطر إزاء تداعيات هكذا أوضاع مأساوية، فذاك يعني أن النموذج الإنمائي الذي يجري التبشير بمزاياه ومنافعه، أسقط العنصر البشري من حسابه، كما أبعد مناطق نائية من أن تحظى بتوزيع عادل للثروات المتمثلة في المشاريع الإنتاجية وفك العزلة. ما يفرض العودة إلى سياسة التخطيط بأسبقيات مندمجة وأجندة محددة بأرقام المشاريع وآفاق الإنجاز.
لئن كانت تحفظات الخطاب الرسمي عن آليات التصنيف وتنقيط التجارب عابت على تقارير أنها استعلائية وغير موضوعية، لا تلتفت إلى الثروة غير المادية وإلى جهود التنمية، فإن الرد الموضوعي على تلك الانتقادات جاء متلازما هذه المرة مع طرح خطة طريق شاملة أقرت أسبقيات السياسات الاجتماعية. وبالقدر الذي يبدو فيه أن المغرب أنجز إصلاحات دستورية وسياسية هائلة، تتطلب تلك الإصلاحات أن يكون لها امتداد على أرض الواقع، فالحرية وحقوق الإنسان ترتبطان بالأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لهذا المفهوم الكوني. والعدالة الاجتماعية ليست شعارا انتخابيا وسياسيا، بقدر ما هي مبادرات وإجراءات تكفل كرامة الإنسان في التعليم والصحة والسكن والفرص المتكافئة في التشغيل، وقبلها التأهيل والتسلح بالمعرفة والعلم وقابلية الانخراط في مجتمع الإنتاج.
نحن إذن أمام تحول جذري في مفهوم التنمية الشاملة التي يكون محورها الإنسان. لا يكفي الاطمئنان إلى الأرقام التي تتحدث عن ترفيع درجات النمو، ولا إلى الشهادات التي تقر بتميز التجربة المغربية، ولكن لابد من تغذية الشعور بالمشاركة في قطف ثمار التنمية، ولن يتأتى ذلك إلا من خلال إقرار خطة بديلة تتضافر فيها جهود القطاعين العام والخاص والمبادرات الحرة، على طريق نزع فتيل الهشاشة والإقصاء. ويمكن اعتبار خطاب العرش بمثابة برنامج عمل وطني تنتفي فيه الخلافات السياسية والحزبية، كونه يتوخى الارتقاء بشروط كرامة وحرية الإنسان المغربي أينما كان في الداخل أو الخارج.