خرافة تشابه الكروموسوم الذكري بين اليهود والعرب
بقلم: خالص جلبي
يعتبر (ابن خلدون) في مقدمته أن الإنسان هو ابن ثقافته أكثر من نسبه. ويرى عالم النفس (سكينر) أننا لو أخذنا طفلين حتى لو كانا توأمين من خلية واحدة فيهما كل مظاهر التشابه الجيني، وربينا الأول في عائلة لوردات ببريطانيا، والثاني بين قبائل (الزولو) بإفريقيا، لخرج الأول محافظا بريطانيا، والثاني إفريقيا يرقص على قرع الطبول لا يختلف في شيء عما حوله؛ فالثقافة هي التي تخلق كل واحد منا على نمطها. ولو ظن المسلمون أنهم فوق قانون التاريخ لأنهم مسلمون بالوراثة، فلن يذوقوا إلا العذاب كؤوسا دهاقا، ومع كل دعائهم الحار أن يزلزل الله أعداءهم، فالزلزلة ليست إلا عندهم، مما يوحي أن الدعاء يعمل ضدنا. ولا تزيد تقليعة تشابه الجينات العربية واليهودية على خرافة تناقض التاريخ، فهذه هي العنصرية، وهي مشكلة النازية سابقا، وهو مبدأ (اليوجينيا) الذي نادى به فرانسيس جالتون. كما أنه خيال داعب عقول أمم شتى أنهم أحباء الله وأبناؤه، والذي ثبت أن الأرض يرثها عباده الصالحون في دورات متعاقبة. إن من عدل الله ورحمته أن البشر جميعا يخرجون من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا، والإنسان يساوي ثقافته فقط، والواقع والكتب المقدسة كلها تشير إلى الحقيقة نفسها. فمع نفخ الصور لا يبقى بينهم يومئذ أنساب ولا يتساءلون، والحساب يوم القيامة فردي، فكل امرئ يفر من أمه وأبيه وكل الانتساب الجيني المزعوم ليواجه قدره بنفسه، ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس بجيناته، كما أن أبا لهب ليس بجيناته أيضا، بل بنظام الفكر والثقافة.
قد يلتبس هذا الموضوع ببعض الأمراض الوراثية وهي حقيقة، ولكن هذا مرتبط بقانون الجسد كمرض السكري وغيره وليس بالفكر. لهذا كل البشر يولدون مع جيناتهم، ولكنهم لا يعرفون لغة ولا فكرا وإنما جهازهم العصبي هو القابل للتعليم. أما الافتخار الجيني فهو في نظر رسول الرحمة (ص) شيء منتن كريه وضد الإنسانية. والإنسان قد لا يألف أخاه الذي هو من أرومة جيناته نفسها، إذا اختلفت بينهما الثقافة، وقد نتآلف مع آخرين لا تجمعنا بهم وراثة، بالانسجام مع تطلعاتنا المستقبلية وفهمنا لوقائع الماضي. وعندما اصطدم العلم مع الإيديولوجيا الشيوعية لم يكن أمام (ستالين) إلا أن يدجن العلم لخرافاته على يد (ليسانكو) ويبعد (أفيلوف)، والصهيونية اليوم تقوم بالمحاولة ذاتها.
يبدو أن اليهود يواجهون نفس المشكلة الأخلاقية تاريخيا عندما صدمتهم كلمات النبي يحيى عليه السلام، فعندما كان يدعوهم أن يصنعوا (ثمارا تليق بالتوبة)، كانوا يواجهونه بأن أصلهم نقي إبراهيمي. ولم يكن للنبي أمام الإصرار على هذه الحماقة المدمرة إلا أن يقول: «يا أولاد الأفاعي أين تهربون من الغضب القادم ولا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا إبراهيم أبا؛ لأنني أقول لكم إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادا لإبراهيم، والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجرة، فكل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع وتلقى في النار».
هكذا ولدت إسرائيل طرحا غير قابل للحياة، وختم (يوحنا المعمدان) حياته بالسيف وقطع رأسه وقدم على طبق إكراما للعاهر (سالومي)! ولم يكن غريبا أن قال لهم المسيح: «الحق أقول لكم إن العشارين والزواني يسبقونكم إلى ملكوت الله، لأن يوحنا جاءكم في طريق الحق فلم تؤمنوا به، وأما العشارون والزواني فآمنوا به». كان عيسى عليه السلام يوبخهم لاعتمادهم الحرفية والمظهر والاعتداد الفارغ بالأصل، فوصفهم على الشكل التالي: «يعرضون عصائبهم، ويعظمون أطراف ثيابهم، ويحبون المتكأ الأول في الولائم، والمجالس الأولى في المجامع، والتحيات في الأسواق، وأن يدعوهم الناس سيدي سيدي … ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون، لأنكم تغلقون السماوات قدام الناس، فلا تدخلون أنتم ولا تدعون الداخلين يدخلون».
هذه الآفة هي على كل حال مرض إنساني يمكن أن يصاب به أتباع أي دين، وليس من أحد محصن ضد مرض الاستكبار وجمود النصوص والانفكاك عن الواقع، والاعتزاز بالانتساب الدموي أو التاريخي. والمسلمون اليوم يعتبرون أن فرعون هو (بيبي الثاني)، الذي عاش في الألف الثانية قبل الميلاد، وأن الآباء الضالين يخصون قريشا فقط.
إن كلام المفلس عن ثروة جده ممتع، ولكن لا يجعله غنيا.
جوهر المشكلة باختصار هو أن نقاوة الدم والتميز الجيني لا يعني شيئا أمام إقامة العدل. إن الفكرة الصهيونية بحثت لها عن ثقب ضيق (بيولوجي) تدخل منه إلى فضاء الشرعية، ولن يكون لها ذلك إلا إذا دخل الجمل في سم الخياط. والآن تتقدم لنا الإيديولوجية الصهيونية في مسوح العلماء، تلبس معطفا طبيا نقشت عليه إشارات (XY)، أن كل يهود العالم يتشابهون في الكروموسومات من بحر الخزر إلى هولندا ومن بروكلين إلى أديس أبابا، والتشابه مطبوع بختم أزلي لا يزول ولا يمحى في نواة كل خلية من الجسم، يميز هذه الأمة المتفردة إلى قيام الساعة بعقد بيولوجي من الله، وكل يهود العالم يحملون هذه البطاقة المميزة أنها طبعت في أرض إسرائيل، قبل أربعة آلاف سنة! وهذا الختم (الجيني) هو سمة مشتركة بين اليهود وأهل الشرق الأوسط، حيث الصراع لم ينته بعد.
إن جوهر دعوة الأنبياء هو إقامة العدل الاجتماعي (ليقوم الناس بالقسط)، ونشر السعادة في قلوب البشر باللاعنف. وما فعلته إسرائيل الحديثة هو انقلاب في أدوار طالوت وجالوت.