شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفن

خارطة وتضاريس الدماغ الإنساني

بقلم: خالص جلبي

 

يزن الدماغ في المتوسط حوالي 1310 غرامات (حوالي كيلوغرام ونصف الكيلوغرام يزيد وينقص)، يشبه ثمرة الجوزة، محمي بثلاثة أغلفة، تضاريسه الخارجية مكونة من تلافيف تضغط حجمه الكبير في جمجمة صغيرة، على مبدأ الاقتصاد في الطبيعة. فلو فرش الدماغ لكان بمساحة جريدة ذات صفحتين، يسبح دوما في ماء دافئ سكري، يتركب من ثلاثة أدمغة تعلو بعضها بعضا، القسم السفلي نشترك فيه مع الزواحف، حيث ترقد المراكز الحيوية المسؤولة عن ضربات القلب وحركات التنفس ومنعكس البلع والعطاس والغريزة الجنسية، يعلوه الدماغ المتوسط مركز إفراز الهورومونات وتنظيم العواطف والمشاعر، ويُتوِّج الكل الدماغ الجديد الذي يتميز به الإنسان ويتشكل من فصين متميزين، الأيمن الشاعري الحساس الفنان، والأيسر صاحب التنظيم العقلي والتفكير المنطقي والتحليل البارد، وفيه مركزا النطق وفهم الكلمات.

   عالم العجائب والمتناقضات:

   كتلة الدماغ تحمل المتناقضات والعجائب، هي مادة رخوة تشبه المربى (الجيلي) غير المتماسكة، فلا يمكن حمل الدماغ على الكف إلا بعد تجميده بالفورمالين، ولكنه يشد العضلات ويوتر الأربطة ويسخر العظام بأوامر في غاية الرقة والنعومة والتهذيب. فالدماغ يعمل بمثابة الحكومة العاقلة العالمة المخلصة، ويعمل الجسد بمثابة الشعب المتفاني في الطاعة. قبة الدماغ تتركز فيها الخلايا العصبية بالمليارات في شبكة علاقات محكمة، على ست طبقات منضدة فوق بعضها بعضا، محمية بسد خفي يسمح بمرور الدم وسكر العنب، ولا يسمح بمرور أي مادة غريبة حتى تسبح في الدوران الدموي، فهذا السد هو مثل الفلتر الخفي ( BRAIN – BLOOD – BARIER= B . B . B .)، الذي يقوم بعملية النقد الذاتي لكل المواد التي تسبح في الدم. ومن هذه الخلايا تمتد استطالات تجتمع بمليارات المليارات، مغلفة بمواد دهنية بيضاء تمنع حدوث التماس الكهربي، ومن هنا كان لون قشر الدماغ رمادي واللب أبيض، فالخلايا العصبية تتدفق فيها التيارات الكهربية بدون توقف، حتى في حالة النوم والأحلام كما وصفها عالم الأعصاب البريطاني ببراعة: «إنه نول كبير به مس من الخفة، حيث تومض ملايين المكوكات ناسجة نموذجا دائم التغيير، وهو نموذج له معنى دائم دائما ولو أنه غير ثابت». ويعقب «جون تايلور»، صاحب كتاب «عقول المستقبل»، على ذلك بقوله: «إن فكرة المكوكات المتحركة هذه ترسم صورة مليئة بالحركة للطريقة التي ينتقل بها التيار الكهربي عبر الألياف العصبية، فهو يتحرك مثل لهب يسري عبر فتيل حتى يصل إلى الوصلة أو مكان الالتقاء بخلية عصبية أخرى. وهذه الوصلة تنقل اللهب الذي يسري عبر الليفة الجديدة. إن هذا المرور المتكرر لهذه الحزم من الومضات الكهربية عبر الألياف العصبية، هو الذي يكون النشاط الأساسي للمخ، وهذه الطريقة التي يحتوي بها المخ المعلومات التي تكون عملية التفكير والإحساس وما إلى ذلك». 

    المفتاح الذهبي للعوالم الجديدة:

   إن الأبحاث الحالية الجارية وهي أهم من التسلح النووي وأسلحة الدمار الشامل، هي أبحاث فهم عمل الدماغ والخلايا العصبية التي تفسر سلوك الإنسان، وهناك الآن في أوروبا عمل ناهض يشتغل بهمة ويضم 2500 عالم في فيزيولوجيا الأعصاب وجراحتها والفلاسفة وعلماء النفس والباحثين في المادة العصبية والسلوك عند الحيوان والإنسان. إن فهم عمل الدماغ الإنساني سيفتح الطريق على عوالم كاملة قائمة بذاتها، مثل فهم اللغة وعلاقتها بالفكر والدماغ، آليات عمل الفكر، ما هو الوعي الإنساني؟ ما هي الإرادة والحرية، وأين مكانها في الدماغ؟ ما هي العواطف حقا؟ وعلاقة عمل العواطف بالعقل؟ ما هي الشخصية؟ أين الذاكرة وكيف تعمل؟ وهل لها مراكز محددة، وكيف تقوى وتضعف وتمرض؟ ما هي النفس أو الروح وعلاقتها بالبدن؟ وهل هناك ثنائية في تركيبنا؟ وإذا وجدت فكيف تتفاعل هذه الثنائية على الشكل الذي طرحه الفيلسوف هيوم سابقا، عندما قال: «هل هناك في الطبيعة مبدأ أكثر إصرارا من اتحاد الروح بالبدن؟ فلو كانت لدينا سلطة تسيير الجبال أو السيطرة على أفلاك الكواكب وتمنينا أمرا بإصرار، فلن تكون هذه السلطة العظيمة أكثر غرابة ولا أصعب منالا على فهمنا».

ما هي الباراسيكولوجيا (PARAPSYCHOLOGY) التي بدأت في التشكل كعلم جديد مستقل عن السيكولوجيا، كيف يمكن فهم سلوك الإنسان من خلال عمل الدماغ؟ كيف نفهم العبقرية والمرض النفسي والجنون في ضوء معلومات من تشريح الدماغ لا تفيد بتغير يذكر في البناء النسيجي بين العبقري والمجنون؟ ما هو الوعي واللاوعي، وأين توجد هذه الطبقات؟ وكيف تتفاعل كما شرحتها مدرسة علم النفس التحليلي؟ كيف نفهم المنام والأحلام التي تتحقق؟ وفي النهاية هل يمكن فهم العنف في ضوء التركيب التشريحي والفيزيولوجي في الدماغ؟ وكيف تتفاعل العضوية مع البيئة؟ وكيف تتبادل الأدوار الجينات والمناخ البيئي؟ وكيف يتفاعل عنصرا الوراثة والمجتمع؟ فكلها أسئلة ضخمة مصيرية تتصدى لها بالدراسة الأبحاث العصبية الجديدة، وعندما يفتح الباب لمزيد من فهم الإنسان، فإنه يعني دخول الإنسان عصر التاريخ فعلا، لأن الإنسان هو التجلي الأعظم في الطبيعة، وأعظم تحد يواجهه هو معرفة نفسه والسيطرة عليها.

 

نافذة:

قبة الدماغ تتركز فيها الخلايا العصبية بالمليارات في شبكة علاقات محكمة على ست طبقات منضدة فوق بعضها بعضا محمية بسد خفي يسمح بمرور الدم وسكر العنب

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى