حين يربى الطفل على الخوف
خالص جلبي
حين يربى الطفل على الخوف يطيع ويخضع ويخنع، ولكنه يخرج كائنا مشوها منافقا كذابا منفعلا يساق بسوط الرعب ويعمل بآلية الذعر، فيخسر آدميته من حيث يريد الوالد القاسي والأستاذ الجبار والحاكم الطاغية منه الطاعة، مقابل خسرانه لآدميته.
تعرفت على رجل فاضل في دمشق، عندما بدأت حياتي الجامعية وكان مدرِّساً لا يعيبه شيء سوى أنه بين الحين والآخر ينحبس لسانه فيتأتئ! كانت هذه (التأتأة) تزداد معه طردا مع التوتر، فإذا ارتخى انفلت لسانه فكانت له عذوبة في الحديث، وتجرأت يوما فسألته عن سبب انعقاد لسانه فروى لي أنه عندما كان طفلا غضب عليه أبوه فأراد تربيته بلون من العقاب لا ينساه، فدفع به إلى ظهر السطح في العراء في ليلة باردة طيلة الليل، ترتب عليها أن أصيب بنوبة من الرعب الأعظم كانت الأعنف في كل حياته! وبذلك نجح الأب الفاشل في إنزال العقاب، فضبط الطفل ورباه ولكن بلسان أخرس. وهكذا تفعل الأنظمة القمعية فهي تحقق مجتمعا أمنيا إلى أبعد الحدود أكثر من أمريكا التي تنتشر فيها الجريمة، ولكن بثمن قاتل من مواطن أخرس، في مجتمع مشلول، في مقبرة تضم حفار قبور وقبور تبلع وجثث تتوافد، ولكن يوما من الحرية في الغرب يعادل ألف شهر من أيام الأمن في الشرق المستباح.
قال صاحبي إنه نزل تلك الليلة فلم يعد ينطق، ثم تحسنت حالته بعد ذلك، ولكنها تحولت إلى علة لم تفارقه مدى الحياة. وأعرف قصة امرأة شابة أصيبت برعب شديد فلم ينبلج الصبح عليها إلا وقد اشتعل الرأس شيبا. وتعلمنا من الطب أن داء السكري قد يحدث بعد نوبات مريعة من الانهيارات النفسية. ويقص لنا القرآن عن النبي يعقوب عليه السلام، أن عينيه ابيضت من الحزن فهو كظيم. وعندما جاءه الخبر بعودة المفقودين، شم رائحة يوسف من مسافة مئات الأميال فقال: (إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون)، قبل أن يأتي البشير فيلقي القميص عليه ليرتد يعقوب بصيرا في مفاجأة لا يملك الطب لها تفسيرا. وإن كان بعض أبطال الإعجاز العلمي نسبوها إلى تأثير العرق في ابيضاض العين وهو أمر يجب إخضاعه للتجربة، كما في قصة الذبابة التي جاء فيها حديث أن جناحا فيه داء وجناح فيه الدواء.
اعتبر عالم النفس (بريان تريسي) أن الطفل يأتي إلى الدنيا بريئا لا يعرف الخوف إلا من أمرين: الأصوات العالية والسقوط من شاهق. وعدا هذين الأمرين لا يعرف الطفل الخوف، فلا يفرق بين الجمرة والجوهرة والعصا والثعبان وأمه، فكلهم عنده سواء.
الخوف كمخزون غريزي جيد فلدغة الأفعى والجمرة المحرقة تشكل تهديدا مباشرا على الحياة؛ فيتعلم الطفل أن يتجنب النار ويهرب من لدغة العقرب، ويتشاءم من رؤية رجل الأمن كما يتشاءم الفأر إذا رأى قطة سوداء. ولكن الثعبان ليس كعصا النظام، فسم الكوبرا ترتيب طبيعي لا حيلة لنا تجاهه، والطبيعة منحتنا تجاه هذه المخاطر حفاظا علينا آلية الخوف، وهكذا فالشعور بالخوف يدفع العضوية إلى الاستنفار فيضخ القلب كمية أكبر من الدم، وتتوسع الحدقة لمزيد من الرؤية، وتتقلص العروق المحيطية ويزداد تجلط الدم تحسبا لنزف قاتل، وتضخ الغدد المزيد من الأدرينالين والكورتيزون والسكر استعدادا لاستهلاك أكبر من الطاقة؛ ولكن الخوف من النظام السياسي ثقافي نصنعه بأيدينا ندشن فيه مواطنا منافقا يتقن فن الخرس والكذب والتآمر في حزمة إمراضية واحدة؛ إن تحدث مدح مولاه بدون مبرر إلى درجة القرف، وإن نطق كذب على طريقة أشعب حتى يصدق نفسه، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون.
في هذه النقطة تختلط الغريزة مع الثقافة على نحو سيئ لأنها تحفز آليات الخوف بدون مبرر وتكررها على نحو ضار؛ فالخوف العابر في مواجهة حادث سيارة طبيعي، لكن أن يعيش الفرد في مجتمع ترتعد فيه مفاصله من الخوف من المخابرات والمخزن (بتعبير المغاربة) بالعشي والإشراق فهذا مرضي.
ولكن لماذا كان استيلاء هذه المشاعر سيئا ضارا؟ جوابه في حديث العضوية فكل المؤشرات سلبية فالمعدة تتقرح، والضغط يسعى حثيثا إلى تفجير الدماغ، فالوجه مصفر، والريق ناشف، والمزاج سيئ في مؤشرات لا تحكي الصحة قطعا.
نحن لا نواجه الأفاعي كل يوم، ولا تلدغنا العقارب كل لحظة، ولكننا في زحمة العمل الاجتماعي نتوتر ونتصادم ونخاف، أو ننجز ونتعاون ونتحاب، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.
بقدر ما كان الخوف ضمن شروطه ضروريا لنجاة العضوية، بقدر ما كان ضارا في الثقافة لإنسان ينمو في ظل مجتمع مشبع بالخوف.
بكل أسف فنحن نبتنا في بيئة مكتوب علينا الخوف، بختم على الحبل السري، مدانين بدون ذنب، نخاف فيها من صيحة الأب وعصا الأستاذ وسجن الحاكم، لا نشعر فيها بلحظة أمان من المهد حتى اللحد؛ ودخول القبر يصوره لنا البعض أنه ولوج أقبية المخابرات نواجه أسئلة محرجة في مواجهة جلادين يمسكون بأدوات تعذيب. لا أننا نواجه ربا كتب على نفسه الرحمة.
الأب يربينا على احترام قواعد السلامة، في مجتمع انقلب منذ أيام الحجاج إلى قطيع من الصيادين للفرص، بأن السكوت من ذهب، وإذا نطقنا فيجب أن نقول كلاما لا يوقظ نائما ولا يزعج مستيقظا، في محافظة على سيمفونية الشخير العام، أن لا يخرج منها صوت نشاز.
أما مدارسنا فالأستاذ يلوح بالعصا يضبط بها الصف بالخوف محذرا من سؤال خارج المنهاج، والنظام مدجج بكل السلاح المتطور منشغل ببناء أجهزة أمنية من حجم خرافي تدب على الأرض بأثقل من أطنان الديناصور اللاحم، تواجه مواطنا أعزل خائفا كما يواجه المسدس العصفور.
وهناك من يقرأ القرآن فيتمتع باستحضار الآيات التي تشع بالعذاب والنار، في حكاية عن ثقافة تعتمد الترويع أكثر من حكمة القرآن البالغة.
وللحديث تتمة…