شوف تشوف

الرأي

حياة وموت الهيآت اللاهوتية

في ربيع 2016 أعلنت السعودية تقليص صلاحيات هيأة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو قرار تأخرت فيه كثيرا. وبالقراءة المتأنية للقرار نكتشف أنها بطاقة توزيع النعوة. فهناك من الطرائق الذكية للدفن، ما يمكن به أن نحنط الجثة؛ فتموت الروح ويبقى الشكل، كما فعل الشيوعيون مع جثمان لينين، فهذه هي حقيقة دورة حياة الكائنات، وولادة وموت المؤسسات، ولا تشذ عن هذا القانون أية هيأة ومؤسسة ودولة وحضارة، إذا انتهت وظيفتها وأكملت دورتها.
وفي القرآن عرض بيولوجي للكائنات، أنه خلقنا من ضعف، ثم جعل من بعد ضعف قوة، ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة، يخلق ما يشاء وهو العليم القدير.
بل ذهب ابن خلدون إلى تحديد عمر الدول في 120 عاما على أساس ثلاثة أجيال؛ جيل يبني الدولة، وجيل يتمتع بثمراتها، وجيل يودع الحياة إلى مقبرة التاريخ.
المؤسسات اللاهوتية في العادة لها عمر و(دورة حياة) تعيش فيه مثل السلاحف والبعوض، تولد ثم تكبر وتتضخم، ثم تشيخ وتستسلم لقبضة الموت، وهيأة الأمر بالمعروف لا تخرج عن هذا القانون، فلها دورة حياة مثل (هيأة) قتال المجالدين في الكولوسيوم الروماني، ومحاكم التفتيش الإسبانية، فالأخيرة عاشت 520 عاما، ويذكر الكاهن (توركيمادا) من سفاحيها على وجه الخصوص، الذي أذاق المسلمين واليهود، أو المشكوك في عقيدتهم من النصارى، من الكاثوليك وغير الكاثوليك، الويل والثبور وعظائم الأمور.
أنا شخصيا لي تجربة مع الهيأة، حين دخلت السعودية وعملت في القصيم، ولأنني كنت حديث العهد قادما من ألمانيا، قد اعتدت التمشي مع زوجتي قبل الغروب، فقد غامرنا مرة بالخروج من المشفى الذي أعمل فيه، ففوجئنا بسيارة ضخمة تقف بجنبنا بسرعة؛ محدثة صوتا مفزعا، قفز منها شاب عملاق شكله أقرب للمجالدين الرومان، وأشار بيده إلى وجه زوجتي المكشوف، وأمرنا بلهجة عدوانية بالتزام الفضيلة والحشمة.
كانت المفاجأة لاحقا مضاعفة، فالرسالة التي فهمناها من ذلك الجو؛ أن الأمر أكبر من الوجه والعباءة، بل هي رسالة إقامة جبرية للمرأة في البيت، وأكثر من ذلك فقد اكتشفنا أننا في مواجهة فريقين: مطاوعة ومتطوعين، والفريق الثاني أشد غلوا وخطرا.
ومما أتذكر أنه خطر في بالي يوما أن أخرج عائلتي في السيارة لتزجية بعض الوقت خارج المشفى قبل الغروب؛ فلحقنا شاب من الصنف الثاني (المتطوعة)، وبدأت المطاردة المضنية، ونحن في السيارة لا تخرج منا سوى رؤوس ملفعة بالسواد لا يرى منها سوى الأحداق، ولكن الشاب المتحمس الذي يريد أن يقيم علينا شريعته المزعومة التي يتصورها، كان من الخطر بمكان حتى أنه كاد أن يصدم سيارتنا، واحترنا أمام هجومه الصاعق، والأنوار الكاشفة التي يسلطها علينا، ثم الزمامير التي يطلقها، هنا أدركت أنني في خطر ماحق، فقررت الهرب من هذا المجنون المطلق السراح من مصحة أمراض عقلية، فلجأت إلى الحصون المغلقة للمشفى، حيث يمنع دخول أي إنسان إلا الساكنة.
لا أدري ما الذي حرض في الذاكرة عندي أفلام الكوبوي وخلفهم الهنود الحمر يطاردونهم بالزعقات المخيفة والبلطات المشرعة وهم يفرون إلى حصونهم؟
الحقيقة أن الفصول التي رأيتها أنا وكثيرون جديرة بكتاب مستقل، وقبل أن أغادر المملكة بصورة نهائية؛ فجعت بخبر مصرع شابين صدمتهما سيارة الهيأة؛ وفي يوم العيد الوطني تحديدا، فقتل أحدهما فورا، ومات الثاني متأثرا بجراحه، بعد أن هوى بالسيارة من أعلى الجسر.
يذكر عالم الاجتماع العراقي الوردي عن ولادة حركة الإخوان مع ولادة المملكة، وهي غير حركة الإخوان المسلمين المصرية. استخدمهم الملك عبد العزيز في العديد من حروبه، بما فيها فتح الحجاز والاستيلاء على الطائف، ويمكن مراجعة كتاب موسوعة عالم الاجتماع العراقي الوردي في جزئه السادس الأخير، حيث كتب على نحو في غاية الاتزان عن شخصية الملك عبد العزيز وحركة الإخوان، وينقل عن فيلبي المستشرق أنه لا تقارن عبقرية الرجل في إيجاد الحركة واستخدامها إلا كيفية قضائه عليها في النهاية، في معركة (السبلة) في منطقة القصيم قريبا من مدينة الزلفي، بعد أن أعياه أمر ضبطهم فتخلص منهم، وهو أمر مكرر في كل الحركات العسكرية التي تتضخم وتتورم، مثل (هيأة) القمصان البنية في الحركة النازية، حين قضى هتلر على (روهم Ruehem) الذي تمرد فقتله هتلر بيده، وكذلك الحال مع البنا الفلسطيني الذي قتلته مخابرات صدام (داعش الحالية)، أو حافظ الأسد من العصابة البعثية، ومصرع صلاح البيطار في باريس وهروب عفلق إلى العراق حيث احتجز حتى الممات وهما من أسس حزب البعث. أو الترابي مع الانقلابيين في السودان، أو التنظيم الخاص للإخوان بين السندي وحسن البنا وقصة اغتيال النقراشي. وكما يقول المثل يداك أوكتا وفوك نفخ.
ولمزيد من معرفة تاريخ المنطقة ونشأة الحركة الوهابية، وكيفية القضاء عليها في نجد على يد (محمد علي باشا) المصري وابنه (طوسون) ثم ابنه (إبراهيم باشا) يمكن قراءة هذه الفصول أيضا عند الوردي العراقي.
يومها قدم إبراهيم باشا إلى الدرعية بعد أن مات طوسون في جدة بالملاريا، وجمع ربما مئات من علماء الوهابية في الدرعية، وأتى بلجنة أزهرية خاصة لمناقشة هؤلاء بماذا يفكرون ويعتقدون؟ واستمر النقاش ثلاثة أيام بمرارة وعناد، وإبراهيم باشا يضبط نفسه، ليقول لهم في النهاية عندي سؤال واحد فقط؟ قالوا تفضل؟ قال: كم عرض الجنة؟ قالوا ـ أي الوهابيون ـ عرضها بعرض السماء والأرض. قال وهل ثمة شجرة واحدة لغير الوهابيين فيها. قالوا محال! هنا أمر الرجل بقتلهم ودفنهم في حفرة واحدة.
طبعا هذه الرواية على ذمة من رواها قبيحة كفاية بهذه النهاية الفاجعة، ولكنها كلها تروي مصير التشدد ومضاد التشدد. وأنا شخصيا رأيت من فصول التشدد خاصة في منطقة القصيم ما يجب تخليده في كتاب، حتى نقرب إلى التصور إمكانية ولادة دولة خرافية مثل (داعش) التي تشبعت بمثل هذه الروح العدوانية.
إن أوربا فكت السحر حين تخلصت من سطوة الكنيسة، وأطلقت الحريات الفكرية في المجتمع، وحررته من إسار اللاهوت، وقالت للبابا هذه أربع كيلومترات مربعة احكم فيها كيفما تشاء، أما نحن فسنقيم مجتمعنا على العدل بالقسطاس المستقيم.
التشدد والغلو والتنطع موجود في كل دين وملة ونحلة، وهو مثل المرض الذي يضرب قفير النحل فيقص أجنحتها فتعجز عن الطيران فتهلك، وكذلك التشدد الديني الذي أودى بامبراطوريات كثيرة، ومنها الإسبانية حيث عاش توركيمادا يصلب الناس ويحرق جلودهم على ما يعتقدون وبماذا يفكرون؟
في عام 1982 كنت في ألمانيا حين تم الإعلان في إسبانيا عن خبر مرعب، باكتشاف قبو مظلم في كنيسة في توليدو منسي، تم الدخول إليه من ممر سري، ليعثروا على ألف هيكل عظمي في أوضاع مرعبة، مصابة بالهلع الأعظم في وضعيات مخيفة. وحين أعلن الخبر تم التكتم عليه بسرعة، وقال المذيع الألماني السمين يومها إنها من بقايا فظاعات المسلمين في الأندلس؟!
بالطبع الأموات لا يتكلمون، وبشهاداتهم لا يدلون، وإلى المحاكم لا يأتون، أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون؟ وكما يقول علم الجريمة أن الجثة هي التي ستقودك إلى الحقيقة، ولكن حيل بين الكشف ومعرفة من الجاني، الذي هو من جماعات (توركيمادا) وأمثاله في كل الثقافات التي تنحرف باتجاه التشدد، الذي هو صنو الجنون، بدون مصحات عقلية وأسوار وقضبان، وأطباء وعلاجات من صدمات الكهرباء وحقن الأنسولين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى