حياة المسلمين بالنمسا
إميل أمين
لا يمكن لخطاب الكراهية أن يبني جسورا، بل جدرانا عالية تمنع من اللقاء وتعزز من الافتراق عوضا عن الوفاق، وتزرع الأرض بالألغام والأشواك، سيما إذا كان الخطاب عقدي الملمح والملمس.
عرفت النمسا دائما وأبدا بأنها دولة ذات دبلوماسية عالية ورفيعة، موضعا وموقعا للقاء القاصي والداني، من الخصوم السياسيين حول العالم، ما أكسبها طبيعة خاصة وسط دول أوربا التي عرفت التطاحن والعداء عبر قرون، ولهذا عمدت كثير من الهيئات الأممية إلى افتتاح مكاتبها على أراضيها.
وكبقية دول أوربا هاجر إليها الكثير من أبناء الشرق والغرب دفعة واحدة، من تركيا ومن سوريا والمشرق العربي، ومن دول ساحل البحر الأبيض المتوسط، ما جعل الإسلام والمسلمين واقعا حيا على أرضها، وقد عرفت النمسا بالتعايش الإيجابي بين أبناء الحواضن والحواضر الإيمانية والمذهبية المختلفة من غير طائفية أو محاصصة.
غير أن فيروس الشر المتمثل في التطرف اليميني والذي ينتشر عبر كافة أرجاء أوربا، ها هو يصيب النمسا، ويجد أنصاره في الإسلام والمسلمين مدخلا لكسب الأصوات الانتخابية، في مزايدة ممجوجة وغير مرغوبة من العقلاء والحكماء.
اليمين الأوربي اليوم مدفوع بإشكاليات عديدة، ومن الأسف فإن حظوظه سوف تتزايد في قادم الأيام، بعد أزمة تفشي فيروس «كوفيد- 19»، حيث تقوقعت كل دولة أوربية على ذاتها، وارتفعت الأنا على حساب الـ«نحن»، الأمر الذي ستكون عواقبه وخيمة عما قريب.
في العقدين الماضيين عرفت أوربا أصواتا زاعقة ورايات فاقعة، اتخذت من المسلمين أداة للهروب من الواقع الاقتصادي والاجتماعي والفكري المأزوم الذي تعيشه القارة العجوز، وفي هذا السياق انتشرت قراءات أبوكريفية لا معنى لها من عينة «أسلمة أوربا»، هذا العنوان الذي نقده ونقضه المثقف الفرنسي الكبير باسكال بونيفاس في كتابه الشهير «مثقفون مزيفون»، معتبرا أن هوس الإسلام في أوربا اليوم هو المكافئ الموضوعي للهوس اليهودي في القرنين التاسع عشر والعشرين، وما يقال اليوم عن المسلمين كان يقال سابقا عن اليهود، «هم ليسوا منا، الدين يفرق بيننا وبينهم تماما، لا يستطيعون، أو لا يريدون الاندماج، يشكلون تهديدا لهويتنا ولأمننا».
هل التاريخ يعيد نفسه؟ لو كان ذلك كذلك لأضحى المشهد كارثيا، وليس ملهاة أو مأساة، كما قال كارل ماركس ذات مرة، ويبدو أن هذا ما تقترب منه أوروبا بقوة اليوم وليس النمسا فقط.
قبل بضعة أيام كان رئيس حزب الحرية اليميني المتطرف في النمسا «نوربرت هوفر»، وخلال تجمع انتخابي يصرح بكلام خطير ومثير، بل عدائي تجاه نحو مليوني مسلم حول العالم، وليس بضعة آلاف يعيشون على التراب النمساوي من المسلمين.
ذهب هوفر إلى أن القرآن الكريم، كان أكثر خطورة من فيروس «كوفيد- 19»، وأن الإسلام لا ينتمي إلى القارة الأوربية، ولا يجب أن يستمر حضوره في النمسا، كما لا يجب أن تكون النمسا بلدا إسلاميا.
يعن لنا أن نتساءل لصالح من يطلق هوفر مثل هذه التصريحات؟
بالتأكيد إنها تأتي لتدعم التيارات العلمانية الجافة، والتي تخدم بقية الجماعات الأصولية الإسلاموية وليست الإسلامية، وتعطيها زخما كبيرا للحياة والبقاء على سطح الأحداث، واستمرارها في أداء أدوارها المشبوهة والتي تخدم عدم الاستقرار حول الكرة الأرضية.
تبدو أوربا اليوم، وبحسب الفيلسوف الفرنسي الشهير «ريجيس دوبريي»، على مفترق طرق بين أصولية ظلامية تحاول أن تستدرجها إلى صراعات دينية وطائفية بل وقبلية، ومن ناحية أخرى علمانية جافة تريد عالما متحللا من أي قيم إيمانية أو منطلقات روحانية.
تصريحات هوفر لم يكن من شأنها سوى تهديد السلم الأهلي في الداخل النمساوي، بين الحزب الديمقراطي الاجتماعي، وبين الهيئة الإسلامية الدينية في النمسا، والتي بدأت في اتخاذ إجراءات قانونية وقضائية، في محاولة منها للجم وتحجيم مثل هؤلاء، وإن كان الأمر أكبر من إمكاناتهم في اللحظة الحاضرة، وربما يضحى مخيفا لو تطور المشهد مع اكتساب الحزب أرضية جديدة من المنتمين إليه كل يوم من الموتورين، والذين يبحثون عن هوياتهم الذاتية في زمن باتت فيه مسألة الهوية لزجة تتشكل كل يوم بصورة مغايرة.
جاءت تصريحات هوفر في واقع الأمر لتعيد حفر خنادق العنصرية في النمسا، ويبدو أنه بالفعل لم يتعلم من تجارب الماضي الأوربي، سيما التجربة النازية التي اشتعلت نيرانها لست سنوات في حرب عالمية طاحنة، وأسفرت عن نحو 70 مليون قتيل، ناهيك عن خراب شامل في الاقتصاد الأوربي، فهل هذا ما يريده ويتطلع إليه السيد هوفر؟
تأتي هذه التصريحات والعالم يقف صفا واحدا ضد العنصرية، ويجابه قضايا العرق والنوع، والمثال الأمريكي الأخير يوضح كيف أن مثل تلك القضايا يمكنها أن تشعل نيران تحطم المجتمعات تحطيما.
في أمريكا أصبحت جماعة «حياة السود تهم»، من الحركات ذات الثقل، فهل باتت هناك حاجة أوربية إلى شعار مماثل «حياة المسلمين تهم؟».