شوف تشوف

الرئيسية

حكايات قاصرات يمارسن الدعارة بالحدائق العمومية مقابل دراهم معدودة

هند شهيد
هاربات، عاهرات، أو منحرفات… هذه الكلمات وغيرها تختزل النعوت التي أضحت مقترنة بفتيات ما زلن في عمر الزهور. هربن من بيوتهن وكنف أسرهن لهذا السبب أو ذاك، فوجدن أنفسهن بين مرارة الواقع، حيث تفاقمت أوضاعهن وتعمقت معاناتهن حتى أجبرتهن على بيع أجسادهن للراغبين في إشباع نزوة عابرة مقابل دراهم معدودة.. مفارقة غريبة تمتص عنفوان فتيات في مقتبل العمر وقعن في شباك الدعارة مبكرا، حيث أضحت أوصاف العار تلاحقهن أينما حللن وارتحلن.
في وسط مدينة الدار البيضاء المليونية، حيث الفئات الاجتماعية مختلفة والظواهر متناقضة، كثيرا ما يصادف المرء في طريقه وقائع تستحق أن تسلط عليها عدسات المصورين وكاميرات مخرجي الأفلام والمسلسلات. «الأخبار» عاينت مشاهد درامية لفتيات في عمر الزهور، وعاشت بعض تفاصيل يومهن الطويل الذي يجمع حكاياتهن الصادمة. إنها قصص من يعرفن بـ «الفتيات الهاربات» اللواتي فررن من أسرهن ومجتمعهن، قبل أن يفاجأن بحقائق تحز في الأنفس تفوق كل التخيلات والأوصاف.

حطب المتعة وطيش الصبى
أحمر شفاه، جسم منحوت فتي، عطر فواح، ونظرات مغرية.. تلك كانت حالة «ياسمين»، التي صادفتها «الأخبار»، خلال تقصيها عن «الهاربات» في مقاهي وشوارع الدار البيضاء، فيما كانت جالسة في ركن من أركان إحدى المقاهي. «ياسمين» تقول إنها وجدت نفسها في عالم ليس بعالمها دفعتها إليه قسوة الظروف التي عاشتها، عالم كان في البداية مجرد مزحة، حسب تعبيرها، قبل أن يتحول إلى حقيقة تعيشها ليلا ونهارا. عنفوان المراهقة لدى هذه الشابة التي تبلغ من العمر 19 سنة فقط، امتزج برغبة شديدة في الحصول على أشياء بسيطة كانت تحتاجها، قبل أن ينقلب كل شيء وتبدأ مرارة الواقع الذي يصبح فيه الحرام مستباحا من أجل الحصول على أشياء بسيطة كانت في الماضي بعيدة المنال.
تحكي ياسمين، بعد صعوبة في إقناعها بالحديث إلى الجريدة، قصتها التي بدأت بتعرفها على شاب يكبرها سنا في أحد المقاهي. أسبوع واحد كان كافيا لإغوائها، لتتطور العلاقة بينهما بسرعة. هجرت أسرتها وغابت عن الأنظار لترافقه إلى مدينة أكادير، ظنا منها أنها وجدت ما كانت تحلم به. مكثا في شقة كانت ملكا للشاب الغني الذي كان يعرف كيف يحكم زمام الأمور، بل ويعرف كيف يؤثر في الفتاة عديمة الخبرة التي لم تكن تستطيع أن ترفض له أي طلب كيفما كان، ولو كان ذلك على حساب شرفها.
وتحكي الفتاة “الهاربة” أنه بعدما استمرت العلاقة مع الشاب لأزيد من ثلاثة أشهر، بدأت تطول مدة تغيبه عنها أكثر فأكثر، بحجة العمل وسفره المستمر.. ياسمين لم تتحمل الوضع المعاش فقررت العودة إلى بيت أهلها، لكنهم رفضوا استقبالها ونعتوها بأبشع الألفاظ وقاموا بطردها والتبرؤ منها، وحتى تهديدها بالقتل بسبب مغادرتها البيت.
منذ ذلك الحين لم تجد غير الشارع ملاذا لها فقررت ولوج عالم الدعارة وامتهنت النوع الرخيص منها. تقول إنها وجدت نفسها مضطرة للتعايش مع الوضع الجديد، وهكذا ولجت عالم الدعارة من باب الاضطرار وليس من باب الاختيار، بحسب قولها، وأصبحت “بائعة هوى” بعدما تعرفت على أصدقاء آخرين، منهم من يحمونها ويستغلونها أبشع استغلال، ولم يعد يهمها إن تعلق الأمر بشبان في ريعان الشباب أو برجال يناهز سنهم الستينيات.
ونحن نحادثها، فجأة رمت ياسمين أحد الجالسين بنظراتها المثيرة، حتى اقترب منها وهو يتمايل لشدة ثمالته، فهمست له في أذنه وامتزجا في قهقهات صاخبة، اندمجت معه ثم غيرت جلستها بوضع رجلها اليمنى فوق اليسرى، لتكشف له عن ساقيها الجميلتين وجسدها المنحوت، وترد على حركاته وهمساته بابتسامة ماكرة، هدفها استدراجه ومصاحبته إلى بيته مقابل مبلغ تتفق معه عليه، قبل أن تودعنا وهي تقول: «خليت لكم الراحة أنا دبرت على راسي».

غابة «ولاد زيان»
ليلا كان أم نهارا، لا تخلو المحطة الطرقية «أولاد زيان» من فتيات معظمهن هجرن أسرهن لسبب أو لآخر. حينما زارت “الأخبار” المحطة لم يكن قد تغير بها شيء عن تلك الصورة التي التصقت بها منذ سنوات، وأحوال “الهاربات” بها ما زالت كما كانت عليه.. دخان سجائرهن يملأ جنبات ركنهن الخاص بموجة ضباب خانقة، استحالت معها رؤية بعض جزئيات العلاقات المتشابكة في المنطقة. المحطة، على كبرها، تعتبر ملجأ لفتيات صغيرات ترمي بهن بعض الحافلات القادمة من مدن صغيرة، وتتركهن يبحثن عن تدبير أمورهن وسط هذا العالم الموحش، ليجدن أنفسهن يرتعن في جنبات المحطة، يقتسمن المكان والزمان مع كل من ضل السبيل، فضلا عن العشرات ممن اتخذوا المحطة مجالا لنشاطهم. هناك تنغمس الفتيات في ممارسة الدعارة وتعاطي المخدرات.
في هذه المحطة التقينا فتاة تبلغ من العمر 18 سنة، رغم أن محياها يوحي بأنها أقل من ذلك. قالت إنها تتحدر من مدينة خريبكة. سردت لنا حكايتها وظروفها القاسية التي دفعتها لولوج الشارع، انطلاقا من المحطة، وأرجعت سبب ذلك إلى إدمان أخيها البكر على المخدرات، وطلاق أبويها، وتحرش زوج أمها بها، محاولا اغتصابها مرات متلاحقة. تقول بملامح تظهر انكسارها إن الزمن وقسوة الظروف تآمرا عليها وهي فتاة مازالت في مقتبل العمر، لتجد نفسها في وحل “دعارة فتية” في جنبات المحطة، بين عدد من الشبان المتسكعين الذين يتكفلون مقابل ذلك، بحسب قولها، بحمايتها في غابة لا ترحم اسمها “محطة ولاد زيان”.
قررت الفتاة التنقيب عن فرصة عمل حال هروبها من المنزل، ولأنها لا تتوفر على أي شهادة تمكنها من إيجاد عمل “محترم”، فقد بحثت طويلا من أجل العمل كنادلة بمقهى أو خادمة بيوت، لكن دون جدوى فالحظ لم يحالفها. وتضيف الفتاة “الهاربة” أنها أصبحت من المدمنات على التدخين والأقراص المهلوسة. ليس هذا فحسب، بل أصبحت غنية عن التعريف لدى العديد من مخافر الشرطة، نظرا لقضائها مجموعة من العقوبات السجنية بسبب السرقة، العراك بواسطة أدوات حادة وغيرها.
تقول: “ما فكرش في العواقب، قلت نمشي لكازا فين كينا الخدمة, بطبيعة الحال تعرفت غير على شباب بحالي، ونسينا الوضعية ديالنا لخايبة بالمخدرات والكارو في جنبات المحطة، فين كنعسو مجموعين، حتى تبليت، وكنقلب على الفلوس بالدعارة مع أي واحد، في الظل ديال المحطة”.
وتضيف هذه الفتاة التي تبدو ساخطة على وضعيتها: “غالبا ما ألجأ للتسول أو “الجقير”، مشيرة إلى أنها اعتادت أن تطلق عبارات خاصة لاستدرار عطف أحد المارين من قبيل: “خويا الزين دبر عليا شي درهم!”، وتكشف أن تسول دريهمات من زبناء المحطة يبقى حلا بديلا في أماكن محددة بالمحطة لتأمين قوت يومي، وشراء بعض السجائر… وتضيف: “غالبا ما يحدث عراك في نهاية المطاف في ما بيننا عندما نجتمع ليلا نتيجة لخلافات تدور أحداثها حول المبالغ المالية المحصل عليها، وقد يصل الأمر إلى الضرب المبرح، واستعمال أدوات حادة…”.

الشارع.. ملاذ “الهاربات”
كما هو متداول لدى عدد ممن التقتهم “الأخبار”، لا يوجد من يهرب حباً في الهرب. بعيون محمرة، ووجه شاحب، وجسم هزيل، تسرد لنا سمية قصتها، بصعوبة وكلمات متقاطعة. هذه الشابة التي يناهز سنها الـ17 عاما، صادفتها “الأخبار” في إحدى الحدائق المجاورة بحي بوركون بالبيضاء، تحكي أنها هربت من عريس كانت مجبرة عليه، رافضة البوح بباقي التفاصيل والتدقيق في قصتها، وتضيف: “عندما فكرت في الهروب من منزل والدي، كنت أعيش ظروفا مأساوية وجد قاسية، وسببها الرئيسي هو الضغط علي من أجل الزواج من شخص كنت أرفضه بقوة، ويكبرني سنا. وقد تعرضت للضرب من طرف والدي مرات عدة، كما كان يمنعني من الخروج بصفة نهائية”.
تقول سمية إن لكل “هاربة” حكاية، “إلا أن الأسباب التي تجمع بين معظم الهاربات هي التعنيف الأسري أو الزواج من شخص لا تريده الفتاة أو الفقر وعدم توافر أبسط حاجات الفتاة”، وتصف ما مرت به بأنه وضع مأساوي وقاس.
وتؤكد: “صحيح أن لكل فتاة حلما بثوب الزفاف والاستقلالية والحياة الزوجية وذرية صالحة، لكن لا مآل لتحقيق ذلك بالغصب، ومع شخص غير مناسب، خاصة عندما يكون ذلك الزواج يدفعك للخلف عوض أن يأخذ بيدك للأمام، ويكون عبئا ثقيلا عوض أن يكون سببا في جلب الراحة”.
منذ ذلك الحين قررت الهروب من المنزل، بحثا عن الاستقلالية وتحقيق الذات، حتى وجدت نفسي وحيدة بين أحضان شوارع البيضاء، أتسكع بين أزقتها وأنام على أرصفة حدائقها التي شهدت لي بعدة حالات من الاغتصاب، وممارسة الدعارة مع كل من هب ودب مقابل أجر زهيد قد لا يزيد عن عشرة دراهم».
لكل واحدة من فتيات الشارع اللواتي اشتهرن بوصف «الهاربات» أسبابها ودوافعها إلى بيع جسدها مقابل دراهم معدودة، وتعاطي التدخين والمخدرات، لكن عددا من المتتبعين للظاهرة يرون أن الأمر يتعلق بواحد من الطابوهات التي يجب الغوص في أسبابها وسبر جذورها ومن ثم تحديد أساليب علاجها، الذي تتحمل مسؤوليته مؤسسات المجتمع والدولة، مشيرين إلى أن مواجهة التفكك الأسري وتصحيح دور المدرسة والمؤسسات الإعلامية سيساعد في تقليص هذه الظاهرة، وحصرها في أضيق إطار ممكن، من أجل التغلب عليها.

رفيق الناوي – باحث في علم الاجتماع : مشكلة هروب الفتيات ليست سوى نتيجة لمشكلة أكبر وأفظع منها
يقول رفيق الناوي، الباحث في علم الاجتماع، إنه عندما نتحدث عن فتيات «هاربات»، فإننا نتحدث عن فئة اجتماعية هشة على مستوى وضعها السوسيو-اجتماعي، وعلى مستوى البنية العمرية في الهرم الاجتماعي، مشيرا إلى أن الأمر يتعلق بـ”فتيات هربن من كنف أسرهن نتيجة مجموعة من الأسباب، كالتعنيف الأسري، الإرغام على الزواج، الفقر والتهميش.. أسباب دفعتهن إلى الهرب كنوع من الفرار من واقع لا يستطعن العيش فيه”.
ويضيف الناوي أن مشكلة هرب الفتيات ليست سوى نتيجة لمشكلة أكبر وأفظع، مؤكدا أنها تستدعي معالجتها، خاصة على المستوى الاجتماعي لأنها تعنيه بشكل مباشر، كما تستدعي مقاربة علمية أكثر عمقا تحيط بهذه المعضلة من أجل استئصالها من الجذور.
وأشار إلى أن هروب الفتاة من أسرتها يعد ناقوس خطر يدق بقوة، ويقول إن الأسرة المغربية التي ينتمي إليها هؤلاء الفتيات الهاربات، غالبا ما تعرف تفككا وانهيارا وهشاشة، ونوعا من الضغوطات التي تمارس عليهن وتدفعهن إلى التفكير في الهروب بعيدا، موضحا أن ذلك يستدعي من جميع المسؤولين والمجتمع المدني التدخل السريع والرفع من التوعية الاجتماعية والأسرية تجاه هذه القضية، ومحاولة خلق لغة للتفاهم بين أفراد الأسرة، وإشعارهم بمسؤولية التعامل مع الفتاة بكل إنسانية، والابتعاد عن تهميشها.
وأكد الباحث أن على المهتمين إنجاز دراسات علمية متخصصة في تشخيص دقيق حول متجليات هذه المعضلة ومسبباتها الحقيقية، وتعزيز منظومتنا القيمية، داعيا إلى استحضار لكل من يعنيه الأمر للمحافظة على هذا الجيل الذي يتعرض لانتهاكات كثيرة واغتصابات فكرية واجتماعية خطيرة، بحسب تعبيره .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى