حسن فرج : “ساعات بعد وفاة الحسن الثاني وجدت نفسي في طائرة متجهة إلى تكساس بأمر من فرج”
يونس جنوحي
لنبدأ اليوم بتفاصيل سفرك إلى الولايات المتحدة الأمريكية.. بعد أن سمعنا خبر وفاة الملك الحسن الثاني عبر الراديو، والاجتماع الثنائي العاجل الذي عقده عبد الفتاح فرج مع زوجته غيثة، أدركت أن شيئا ما ليس على ما يرام.
قلت إنه نادرا ما كانا يتواصلان.. هل هذا هو السبب الذي جعلك تشك في أن الأمور ليست على ما يرام؟
نعم بدا لي وكأنهما يتفاهمان على شيء ما. وفي المساء، بعد أن غادرنا الصخيرات مباشرة في اتجاه الرباط، أُخبرت أنه يتعين علي جمع أغراضي للسفر فورا. وفي المساء ذاته وجدت نفسي في الطائرة المتوجهة إلى أمريكا، والتي كانت تقل على متنها نخبة من أبناء المسؤولين المغاربة، في إطار أنشطة جمعية رباط الفتح.
هل نفهم أن هذا السفر كان مدبرا له.. ربما يكون من الصدفة فقط أن يتزامن مع وفاة الملك الحسن الثاني.. لماذا سينتظر عبد الفتاح إلى ذلك المساء بالضبط ليرسلك إلى أمريكا؟
قد يبدو لك الأمر كذلك، لكن الأحداث التي وقعت في ما بعد تؤكد صحة ما أعتقده. أحيانا أجلس مع نفسي وأبدأ في ربط الأحداث الكثيرة التي مرت عليّ في تلك السن المبكرة وأحاول تفسير ما رأيته أمامي أكثر من مرة. عبد الفتاح فرج لم يكن يكنّ لي أي مشاعر عطف أبوي، ووافق على التبني امتثالا لرغبة الملك الراحل، وبوفاته لا بد أن يرى أنه لا ضرورة لإبقائي داخل بيته مرة أخرى.
بتلك السرعة؟
نعم، لأنه من ناحية أخرى كان يعلم أن أموره في المغرب لن تكون على ما يرام. لقد كان سكرتير الملك، وراكم ثروة كبيرة جدا.
ماذا كان موقف والدتك في ذلك المساء؟
محايدا جدا. التزمت الصمت كعادتها، ولم تنظر إلي ولم تقدم أي شروحات. لا أحد شرح لي أي شيء، كل ما كنت أعرفه أنه يتعين علي الإعداد للسفر بعد قليل ذلك المساء.. وبعدها مباشرة بساعات قليلة، وجدت نفسي في الطائرة المتجهة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، والبلاد مصدومة بموت الملك الحسن الثاني. في عمر السادسة عشرة، لم أفهم أي شيء، لكني اليوم أدرك أن اسمي أدرج في تلك الرحلة، في آخر لحظة، بفضل علاقات والدي ونفوذه كسكرتير للملك.
ألم تبد أي اعتراض؟
قلت له لا في البداية، لكنه أصر على أن أذهب. لم يتحدث معي كعادته، بل كان يشير بيده فقط. يتحدث عندما يسبّني فقط، ولا ينطق الجمل كاملة عندما كان يخاطبني. لذلك لم أجد بدا من الامتثال، لأن الاعتراض لن يجدي في شيء. كما أن ما زاد من شكوكي وقتها هو بقاء خديجة في الرباط معهم، ولم يبادر أبدا إلى ترحيلها معي أو إلى أي مكان آخر.. كنت المستهدف الوحيد.
طيب، انتقلت إلى أمريكا..
نعم مع جمعية رباط الفتح، وكانت الرحلة في إطار تبادل الزيارات بين المغرب والولايات المتحدة الأمريكية، حيث يأتي أطفال أمريكيون لقضاء أسابيع في المغرب، ويرسل المغرب بالمقابل فوجا إلى أمريكا.. كان يتعين علينا أن نتوجه إلى تكساس.
كم بقيت هناك؟
بقينا شهرا، وكان الغرض من الزيارة هو تعلم اللغة الإنجليزية.
بقيت شهرا فقط؟ ألا تبدو هنا نظرية إبعادك ضعيفة.. لو أراد عبد الفتاح إبعادك فسوف يرحلك مدة أطول.. صحيح؟
كان يخطط لإبعادي حتى يتفرغ للإعداد لمرحلة ما بعد وفاة الملك الحسن الثاني. ثم إنني لم أكن أحتاج ذلك المخيم لتعلم اللغة الإنجليزية، لا تنس أنني كنت أدرس في المدرسة الأمريكية وإنجليزيتي متقدمة. عبد الفتاح كان يحتاج إلى ذريعة لا تثير الشكوك لإبعادي حتى يرتب أموره. والدليل على صحة ما أقول هو ما وقع مباشرة بعد عودتي من الرحلة إلى تكساس.
فمباشرة بعد عودتي توجهت مع أمي وخديجة إلى ألمانيا، كما كانت العادة كل سنة. لم أر عبد الفتاح ولم ألتقه ولم يقل لي أي شيء. لم يسألني عن الرحلة، وهو ما كان متوقعا أيضا. عندما عدت من الرحلة الأمريكية بتكساس، مكثنا أربعة أيام في الرباط وانتقلت رفقة أمي وخديجة إلى ألمانيا.
في ألمانيا كنت أعمل في بعض المحلات والمقاهي، لتوفير مصروف الجيب خلال العطلة الصيفية..
سأقاطعك هنا.. هل كنت معتادا على العمل؟
كان يبدو لي عاديا في الحقيقة لأن التكوين الذي تلقيته في الصغر، داخل أقسام المدرسة الأمريكية، زرع فينا أن العمل ضروري للاستقلال ماديا في سن المراهقة.. وهكذا توجهت دون إيعاز من أحد أو ضغط، لأوفر لنفسي بعض المال كي أتحرك بحرية في «أولم». لا أنكر أن والدتي كانت تمدني بالمال بين الفينة والأخرى، خصوصا قبل أن يقرروا التخلي عني رسميا. المهم أنني تدبرت أموري المالية ذلك الصيف، عبر الاشتغال في المقاهي والمحلات.. خصوصا أن العمل لم يكن مرهقا وأنتهي في المساء وأعود إلى البيت حيث كانت أمي تستقر رفقة أختي خديجة.
في تلك الفترة أخبرتك أمك أنه يتعين عليك تدبر أمورك بنفسك وطُردت من العائلة..
هذا ما وقع بالضبط. في إحدى الأمسيات، عدت بشكل عادي من العمل مساء، وتوجهت إلى البيت. لأتفاجأ بأن قفل الباب قد تغير. ظننت في البداية أن الأمر يتعلق بعطل في القفل، لم أتصور أن تكون والدتي قد غيرته. كان المنزل مكونا من طابقين، استأذنت جيراننا في الصعود عبر الدرج إلى الطابق الثاني، واستعملت جرس الباب دون جدوى. وبينما كنت على تلك الحالة لمحت ورقة صغيرة محشورة في الزاوية.
ماذا كان مكتوبا فيها بالضبط؟
أغراضك في فندق «إيبيس».
فقط؟
لم أفهم في البداية ما المقصود بهذا الكلام. لكنه لم يكن يعني في الحقيقة إلا شيئا واحدا. أنت الآن خارج حياة أسرة عبد الفتاح فرج. المهم، توجهت فورا إلى الفندق المذكور. سألت في الاستقبال إن كانت هناك أغراض باسم «الحسن فرج».
منحوني غرفة كانت محجوزة باسمي. عندما دخلت إليها وجدت أغراضي في علب كرتونية وفهمت الرسالة جيدا. كانت من توقيع والدتي بطبيعة الحال، أخبرتني فيها أنني وصلت سنا يمكنني فيه أن أبدأ حياتي من جديد مستقلا عن عائلة عبد الفتاح. وأخبرتني ألا أفكر في الدخول إلى المغرب، وحتى إن أردت الدخول فإنه يتعين عليّ أن أمكث في فندق وأتدبر أموري، أي أنه لا مكان لي بين العائلة.
ألم تترك لك مالا لتدبر أمورك؟
بلى. تركت لي وقتها، أي في 1999، مبلغ 50 ألف مارك ألماني، حوالي 250 ألف درهم.. يعني لأبدأ حياتي.
هل قبلت بالأمر؟
لا بطبيعة الحال. أحسست أنهم رموني بدون سبب، وحاولت الاتصال بوالدتي فورا لأستفسر عن السبب وراء هذا الأمر، لكنها لم تكن ترد على اتصالي. واتصلت أيضا بعبد الفتاح، الذي كان في المغرب، لأحصل على جواب، لكنه لم يكن يرد أيضا. اتصلت بأختي خديجة، وهي الوحيدة التي ردت على اتصالي..
ماذا قالت لك؟
لم تقل شيئا، ردت على المكالة وسألتها عن السبب وراء ما قام به عبد الفتاح وأمي غيثة، ولم تقدم لي أي رد أو تبرير، بل اكتفت فقط بالضحك، ففهمت أنه «ضربني تران» كما يقال..
المهم أنني حاولت في البداية التأقلم مع الوضع الجديد. أول ما فكرت فيه كان إكمال دروسي، في الموسم الدراسي الموالي.
ألم تدخل إلى المغرب؟ ألم تحاول؟
لا أبدا. لم أحاول الدخول إلى المغرب، لقد بقيت هناك في ألمانيا إلى سنة 2007. ليس خوفا من عبد الفتاح فرج، أو تنفيذا لكلام والدتي غيثة، لكن إدراكا لواقع مفاده أن الدخول إلى المغرب في ذلك الوضع لن يجر عليّ إلا المشاكل. ففضلت أن أبدأ حياتي من جديد في ألمانيا وأتعايش مع الوضع الجديد. المشكل كان بالنسبة لي أنني توقفت في آخر موسم دراسي، بالبعثة الفرنسية، ففكرت أن أتوجه إلى فرنسا لأكمل الدراسة الثانوية هناك. التسجيل في مدرسة ألمانية، لأنني كنت أحمل الجواز الألماني أيضا، لم يكن خيارا صائبا، لأنه سيحتاج مني وقتا لأتأقلم مع النظام التعليمي لديهم، فكان أن فضلت التوجه إلى فرنسا مباشرة مع اقتراب الموسم الدراسي بعد انقضاء العطلة الصيفية. هذا بالإضافة إلى أنني كنت قد تلقيت دروسا في السابق داخل مدرسة كانت تتوفر على داخلية في فرنسا، وقضيت بها فترة للتعلم، بعد أن كنت مسجلا في المدرسة الأمريكية، ثم انتقلت إلى البعثة الفرنسية، ومنها عدت إلى المدرسة الأمريكية من جديد، ثم إلى فرنسا كما قلت لك.. وبالتالي فكرت في إتمام الدراسة بفرنسا.
هل كان المبلغ الذي قدمته لك والدتك كافيا؟
لم يكن كافيا لأي شيء، واحتجت المزيد من المال من أجل المدرسة. مستوى المعيشة في أوربا مرتفع جدا، والجميع يعلم هذا الأمر، فما بالك بمتطلبات شاب في السادسة عشرة من عمره، يتوجب عليه أن يواجه الحياة لوحده ويتدبر أموره كلها وليس فقط مصاريف العطلة الصيفية. كان يتعين علي أن أتدبر مسكنا أولا. سأشرح لك في ما بعد كيف أن والدتي كانت تتدخل لمدي بالمال بين الفينة والأخرى..
كنت وقتها في عمر 16 أو 17.. أي أنك دون السن القانوني لاكتراء شقة أو الاستقلال بنفسك في المجتمع الألماني..
هذا هو العائق الأول الذي كان أمامي، وكنت أيضا أحتاج إلى من يسجلني في الثانوية بفرنسا. لا يمكن أن أذهب إليهم وأقول إنني أرغب في استكمال دراستي لديهم. لا بد من ولي أمر يرافقني، وقد فكرت والدتي في هذا الأمر، وربطت الاتصال بيني والدكتور «قنيدل»، الذي كان يعمل ملحقا ثقافيا في سفارة المغرب ببرلين.
هذا الرجل سيغير أمورا كثيرة في حياتك.. قبل أن نتحدث عنه، كيف عشت المرحلة بين تخلي الأسرة عنك ودخول الدكتور قنيدل إلى حياتك؟
في الحقيقة عشت في دوامة داخلية، خصوصا بعد المكالمة الأخيرة بيني وخديجة، التي يفترض أنها أختي. عشت أزمة نفسية كبيرة، لكني لم أستسلم، بل فكرت في المضي بحياتي إلى الأمام مهما كلف الأمر.. شيء ما بداخلي كان يقول لي إنني مراقب، وإن عين عبد الفتاح تتعقبني حتى لا أعود إلى المغرب أو أطالبه بأي شيء. لم أحاول الذهاب إلى منزل أمي وأختي خديجة في مدينة «أولم» الصغيرة، ليس لأني حانق عليهما لكن لأني أدركت أنه لا داعي لوجودي قربهما.
في يوم من الأيام، كنت جالسا في مكان عام أتأمل المارة، فإذا بي ألمح رجلا يرتدي معطفا ونظارة شمسية وقبعة، وأدركت أنه يتعقبني بنظارته.. أحسست أن هناك أمرا مريبا، فبقيت أنظر إليه بدوري، إلى أن جاء إليّ وأخبرني أنني مُراقب، ومضى..
ألم يخبرك بالجهة التي أرسلته؟
كان الأمر واضحا. يراقبونني ليعرفوا خطواتي المقبلة، وإن كنت سأقبل بالأمر الواقع، والذي يتجلى في تخليهم عني، علما أنهم قاموا بعملية التبني في البداية، ولديّ بالتالي حقوق عليهم.