حسن فرج: «ساءت حالة عبد الفتاح في ألمانيا وأصبح يتردد على الأماكن الحقيرة»
حاوره: يونس جنوحي
توقفنا عند أول لقاء لك بعبد الفتاح فرج، بعد سنوات على حادثة طردك من الأسرة. قلت إنك دخلت الغرفة وجلست أمامه ولم تتبادلا غير نظرات في اللقاء الأول.
بقينا ننظر إلى بعضنا البعض في صمت لفترة. انفعلت قليلا وأحسست بالارتباك، تصارعت داخلي أسئلة كثيرة. كنت أريد أن أسأله عن السبب الذي جعله يطردني من الأسرة بتلك الطريقة المهينة، ولماذا بالضبط ساعة موت الملك الحسن الثاني، ولماذا لم يقم بالأمر قبلها..؟ أسئلة كثيرة تداخلت في رأسي، لكني كنت أبادله النظرات نفسها دون أن أملك كلمات لأقولها له.
- كُنت تتوقع أن يطردك.. هل فكرت في الأمر يوما ما؟
لقد قال لي مرة.. عندما كنت في سن الثالثة عشرة، إنني إن ذهبت إلى السجن فإنه لن ينتشلني منه. قال لي بالحرف: «ماغاديش نعقل عليك». ولم أر يومها أي سياق للكلام الذي قاله. أستغرب كثيرا سلوكات مماثلة أقدم عليها في وقت مبكر، وكلها تعني لي الآن أنه كان يفكر في طريقة للتخلص مني.
- لنعد إلى لقائكما الأول.. ألم تتحدثا؟
لقد التقاني بضغط من أمي غيثة. بدا واضحا أنه لم يكن يريد أن يراني، بدا لي يومها جامدا تماما، خاليا من المشاعر. قلت لك إنني كنت صامتا، أنظر إليه وأفكر في شريط حياتي كاملا.. وكيف طردني ولم أقو على طرح الأسئلة. وبينما كنت منهمكا في تلك الأفكار، دون أن أزيح عينيّ عنه، سمعته يوجه إليّ هذه العبارة: «كيف الجو في فرنسا؟». قالها بالفرنسية. كانت تلك أول مرة أسمع فيها صوت والدي منذ سنوات. أجبته بأن الجو مشمس. فرد: «آه.. عندكم الشمس. مزيان». كان حديثا سطحيا وتافها. وكأننا لم نكن في قطيعة لسنوات. لم تدم الجلسة أكثر من خمس عشرة دقيقة، أغلبها كان صمتا وترقبا فقط..
كان هذا هو حديثه حتى مع أمي غيثة. لم يكن في كلامه أي شيء مهم، كان دائما يتحدث فقط لملء الفراغ أو لتبديد الصمت أو تصنع الاهتمام بشيء ما، لكنه في الحقيقة لم يكن مهتما. الوحيدة التي كان يهتم بها هي خديجة ابنته، وقد رأيت هناك في ألمانيا أنهما كانا منسجمين كثيرا، أكثر مما كانا في المغرب.
من خلال لقائي الأول به، لمست بوضوح أنه تغير كثيرا. لم يعد عبد الفتاح فرج كما كان، بدا عليه الوهن والشرود أكثر من أي وقت مضى. كنت أنظر إليه وعلامات الإنهاك بادية عليه، حتى في الأيام الأولى لظهور أعراض المرض. كنت أقول في نفسي: هل هذا هو عبد الفتاح فرج، سكرتير الملك الحسن الثاني؟ بعد أن كان يعيش حياة الترف والسلطة والجاه، أصبح الآن يتردد على أرخص حانات مدينة «أولم»، ويسكن في شقة بحي صناعي. كنت أتوقع أن يتقاعد في مكان يليق بمكانة موظف كبير في الدولة عمل عقودا إلى جانب الملك الحسن الثاني.. لكن مصيره كان عكس كل تلك التوقعات.
- كانت تلك أول مرة تلتقيه فيها. المرات الأخرى خلال الأشهر التي سبقت وفاته.. هل كان يتحدث معك؟ هل حكى لك شيئا عن مشاكله في المغرب والطريقة التي غادر بها البلاد وإصراره على أن يدفن في ألمانيا؟
لا لم يحك لي شخصيا، لكن والدتي حكت لي أشياء كثيرة. في المرة الثانية التي التقيته فيها، كان قد تحول إلى الشقة الفاخرة الواقعة بأرقى منطقة في «أولم»، بدا لي وضعه أفضل من المرة الأولى، لكن طباعه لم تتغير. بقي يتردد على الحانات الرخيصة، ويراقب السكارى الذين يلجؤون إلى تلك الأماكن البئيسة ويجلس بينهم. لكنه لم يكن يتواصل مع أحد في الحقيقة، ليس فقط لأنه لم يكن اجتماعيا، ولكن لأنه لم يكن يتحدث الألمانية.
- أخبرني عن لقائك به في المرة الثانية.. في أي سياق كان ذلك اللقاء؟
كالعادة، جئت من فرنسا للاطمئنان على أمي، ودخلت معها إلى الشقة حتى أراه.. كنت أصطحب معي كلبا شرسا، وكانت تلك عادتي، ولا تزال. عندما دخلت اصطحبت معي الكلب، وما أن رأى والدي عبد الفتاح فرج، حتى بدأ في النباح وتملكه هيجان شديد. كان ممكنا أن يهاجمه، ويقتله لا محالة. لحسن الحظ كنت أتحكم فيه جيدا. بقي عبد الفتاح مذهولا، يراقب الكلب الذي أصبح مسعورا، ولم يأمرني مثلا أن أخرج الكلب أو أبعده، بل بقي ينظر إلى الكلب في ذهول، وانسحبت بعد أن أدركت أنه يصعب فعلا التنبؤ بتصرفات الكلب في ذلك الموقف.. هكذا مر اللقاء الثاني، لم نتحدث أبدا بسبب هيجان الكلب الذي كنت أصطحبه معي.
- بعد علمك بمرض والدك بالسرطان وأنه لم يتبق له الكثير ليعيشه.. ألم يجعلك الوضع الجديد تحس ببعض العاطفة تجاهه؟
عاطفتي بالأساس كانت تجاه والدتي. في تلك المرحلة العمرية لم أملك أن أحس تجاه والدي بأي شيء، لأنه كان يوصد الأبواب في وجهي أصلا. لا يمكن أن يتجاوب معي حتى لو أردت أن أفتح معه الباب، والدليل أنني زرته مرات كثيرة أيام مرضه، ولم أحظ بأي لقاء حميمي معه.
كنت في الحقيقة أتوقع أن يطردني عندما هاج كلبي في وجهه، لقد كان موقفا خطيرا جدا. في تلك الحالات، لا يمكن لكلب قوي إلا أن يقتل ضحيته في رمشة عين. أحس بخوف لكنه لم يقدم على أي رد فعل إطلاقا.. بقي يتأمل الكلب فقط.
في المرة الثالثة زرته في المستشفى، كان قد دخل في المراحل الأخيرة.
- قبل أن نتحدث عن المستشفى والأيام الأخيرة لعبد الفتاح فرج في ألمانيا.. عد معي بالأحداث إلى الشقة، أشرت إلى أن علاقته بأختك خديجة كانت ممتازة.. هل قضى معها وقتا طويلا قبل موته؟
نعم. في المسكن الواقع بالحي الصناعي في «أولم»، كانا يقضيان وقتا طويلا معا في الحانة الواقعة داخل الفيلا. كانت تبدو من الحديقة، في اتجاه القبو. حانة عتيقة. قالت لي والدتي إن عبد الفتاح فرج وأختي خديجة كانا يمضيان ساعات طويلة داخلها، ويضحكان طوال الوقت.
- أنت قلت لنا في هذا الحوار إن خديجة ليست ابنته بالتبني ورجّحت، ثم أكدت أنها ابنته الحقيقية من خادمة سابقة في بيته.. هل كانت والدتك تعلم بهذه الأمور؟
والدتي نفسها من أخبرتني بهذا الأمر. لو سمعت ذلك من شخص آخر لاعتبرته فرضية قوية تزكيها تصرفاته. لكن أمي، خصوصا بعد وفاة عبد الفتاح فرج، صارحتني بالأمر وقالت لي إنها تعلم أن خديجة نتيجة علاقة بين عبد الفتاح وخادمة سابقة بالمنزل، وأنها تعلم بأمرها، لكنها فضلت أن تتحدث عن قصة تبنّ من مركز الأطفال المتخلى عنهم.. هذا أمر اعترفت به أمي في السنوات الأخيرة فقط. هذا الأمر فسر لي سبب البرود الكبير بينهما والقطيعة الغريبة التي كانت بينهما كزوجين.
- لنعد للموضوع.. إذن عبد الفتاح فرج قضى آخر أيامه سعيدا مع ابنته خديجة..
كانت تقدم على الكثير من المشاكل في ألمانيا، مخالفات سرعة. خديجة كانت عنيفة منذ الطفولة، ولم يقم عبد الفتاح فرج بتأديبها. وفي آخر أيامه في ألمانيا كان يضحك كثيرا عندما يعلم أنها ارتكبت حماقات كثيرة، ولم يوبخها مثلا، علما أننا كنا في قمة سن المراهقة.
- وأنت.. كيف نظرت إليها بعد كل تلك السنوات من القطيعة.. كنت تراها في منزل عبد الفتاح بألمانيا.. صحيح؟
نعم رأيتها في مرات كثيرة لكننا لم نتحدث. الهوة بيننا زادت اتساعا، وازداد التباعد بيننا عندما علمت من أمي، رحمها الله، أن خديجة حاولت خنقها ذات مرة بحضور عبد الفتاح فرج. فقدت خديجة السيطرة على أعصابها وهاجمت أمي محاولة خنقها، وكان عبد الفتاح فرج يراقب المشهد ويضحك. واتصلت بي أمي مرتعبة.
عموما كانت هذه المرات التي زرتهم خلالها داخل المنزل القديم ثم داخل الشقة الراقية. لقد كانت أسرتنا مفككة للأسف حتى في مثل تلك الظروف الصعبة. المرات الموالية التي زرتهم خلالها، كان عبد الفتاح قد بدأ يعاني من مراحل متقدمة جدا من المرض، وكان الأمر صعبا في الحقيقة. كانت والدتي تتصل بي بين الفينة والأخرى، وتقول لي إن والدي عبد الفتاح انتقل إلى المستشفى لأن وضعيته صعبة واستدعت نقله إلى هناك..
- من كان يزوره في المشفى؟
العائلة فقط. أول مرة أزوره في المصحة التي تلقى فيها العلاج كانت صعبة للغاية. تعرضتُ لحادثة سير في فرنسا، واضطررت إلى ترك سيارتي للإصلاح، واستقللت القطار من هناك إلى ألمانيا، وكان البرد شديدا جدا. عندما وصلت إلى العنوان كما ذكرت والدتي، وجدت أن المصحة محروسة جيدا، وبما أنني كنت أرتدي معطفا ثقيلا وغطاء للرأس، وملامحي عربية، فقد أثرت انتباه الحراسة. سألوني في البداية عن حاجتي وقلت لهم إنني هنا لرؤية والدي عبد الفتاح فرج، لكنهم لم يصدقوني وصفدوني واقتادني الأمن إلى خارج المصحة، وبعد تدخل والدتي تم السماح لي بالدخول.
- أليس هذا الأمر غريبا؟ هل كانت هناك تعليمات مثلا بأن تبقى خارج المصحة؟
لا لا.. لا أظن. والدتي اتصلت بي لأحضر، وكان ضروريا أن أكون بجانبها في تلك الظروف العصيبة. أعتقد أن الأمر كان يتعلق بحراسة مشددة داخل المصحة عموما.
- هل كانوا يعلمون أن نزيلهم هو عبد الفتاح فرج؟
في ألمانيا لا يؤمنون بتلك الأمور، لا فرق بين رجل الدولة والمواطن العادي في العلاج. المصحة لم تكن مخصصة لفئة معينة من الناس أو السياسيين أو الزعماء أو الموظفين السامين. فقط الحراسة كانت مشددة، وأستبعد أنهم وفروها لعبد الفتاح فرج. لم يكن يعرفه أحد هناك على كل حال. ثم إني.. (يضحك) لقد كان منظري غريبا ويستدعي فعلا أن يتدخلوا ضدي. تخيل منظر شاب بملامح غريبة عنهم، يرتدي معطفا ثقيلا جدا، ويغطي رأسه بالكامل. السبب أن البرد كان لا يطاق، خصوصا في القطارات.
- هل تحدثت إلى عبد الفتاح فرج في المصحة؟
لا. لم يكن ذلك ممكنا، لقد كان ممددا فوق السرير ويتألم. كان المرض الخبيث قد تمكن منه. وقفت قربه، وجلست قليلا مع أمي، وانصرفتُ لأعود إلى فرنسا.
- هل أختك خديجة كانت هناك؟
نعم كانت حاضرة طبعا، لكنني لم أتحدث إليها.. كنت غاضبا عليها بسبب تصرفاتها.
- ربما بسبب قربها من والدك أكثر؟ هل رأيت بوادر لقرب استفادتها مثلا من 80 في المائة من ثروة عبد الفتاح فرج؟
ليس بسبب قربها من والدي، وليس بسبب الإرث. تلك الأمور لم تكن في الحسبان. كنت فقط غير راض عن الطريقة التي اختارتها لتعيش حياتها، ومن تذمر والدتي منها. بعد ذلك سأصدم عندما ستصبح والدتي متفقة من جديد مع أختي خديجة، وأصبح أنا مجددا خارج دائرة العائلة.