حسن فرج : «الحسن الثاني اقترح على والدي أن يتبناني حتى يستمر اسمه العائلي»
في يوليوز 1999، بمجرد ما علم عبد الفتاح فرج، مدير الكتابة الخاصة داخل القصر، بخبر وفاة الملك الحسن الثاني، حتى سارع إلى التخلص من ابنه حسن. يقول لنا حسن إنه وجد نفسه بدون مقدمات في طائرة متوجهة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، تحمل على متنها نخبة من أبناء العائلات النافذة، لقضاء أسابيع في مخيم لتعليم الثقافة واللغة الإنجليزية في أمريكا. كان يعلم أن وراء الرحلة ما وراءها، وأن والده عبد الفتاح لم يكن ليرسله حبا في سواد عينيه. سيعود من الرحلة ليجد أن العائلة تخلت عنه تماما، وسيكون عليه أن يعيش وحيدا في ألمانيا وشمال فرنسا، تتقاذفه الحياة إلى أن جاءه اتصال ذات يوم من والدته، ألمانية الأصل، لتخبره أن والده عبد الفتاح مصاب بسرطان خطير، وأن الأطباء يقولون إن أهم رجل في الكتابة الخاصة للحسن الثاني لن تكون أمامه سوى شهور قليلة ليودع العالم. كان هذا في 2005،
وفعلا رحل رجل أسرار الحسن الثاني ليترك للعائلة تركة ضخمة تتخللها مشاكل كثيرة. يجلس حسن أمام شريط حياته، مستعرضا شخصية والده الذي كان غامضا إلى الدرجة التي لم يكن ينبس بكلمة إلا في مناسبات يسيرة، ويضع أمامنا قضية كبيرة اسمها: «لغز حياة عبد الفتاح فرج»، مدير الكتابة الخاصة للملك الحسن الثاني لسنوات طويلة جدا. سنرى كيف أن تحولات كثيرة في حياة الأسرة ظلت رهينة بخصوصية المهنة التي يزاولها الوالد. أين يبدأ عبد الفتاح فرج، وأين ينتهي.. وأين يأخذ ابنه حسن بزمام الأمور، تتقاذفه الحياة بين الأم الألمانية وقصة علاقة الزوجين بالملك ومحيط القصر، ثم إلى علبة الأسرار التي يريد الجميع الوصول إلى رقمها السري في سويسرا، حيث أغلق عبد الفتاح فرج على أسراره بإحكام قبل الرحيل. يقول حسن إنه لم يسبق له أن لعب لعبة الذاكرة، لذلك قرر أن يجلس إلى «الأخبار» لنعيد معه تركيب حياته من جديد..
نريد، في البداية، أن تبدأ لنا بعلاقتك بعبد الفتاح فرج.. كيف وصلت إلى كنف الأسرة؟
عندما فتحت عيني وجدت نفسي في بيت والدي عبد الفتاح فرج. وحسب ما روته لي والدتي الألمانية، فإنها جاءت بي من مركز لالة مريم في الأسابيع الأولى لولادتي، أي في ربيع سنة 1982، وعشت كأي طفل صغير داخل منزل والدي عبد الفتاح فرج..
كيف كانت علاقتك بوالدك؟
كان بحكم عمله كثير الانشغالات والسفريات، وحتى في الأوقات التي كان يقضيها في المنزل، كان صموتا وصارما، بالكاد يتحدث. لم يكن يتواصل حتى مع زوجته الألمانية، وكثيرا ما كنت ألاحظ أنه يكتب لها رسائل في ورقة صغيرة وترد عليها بدورها في ورقة أخرى..
في سنوات طفولتك الأولى.. هل كنت تعلم طبيعة عمل والدك؟ يعني هل كنت تدرك أنك ابن رجل مهم في الدولة؟
نهائيا.. كنت أظن أنه رجل أعمال، وهذا ما فهمته في سنواتي الأولى في الروض والمدرسة.
هذا يعني أنك لم تكن ترى محيط عمله.. ألم يكن يصطحبك معه إلى الحفلات أو اللقاءات الخاصة خارج العمل؟
أتذكر جيدا أنه في سنوات طفولتي الأولى، كان يتم اصطحابنا إلى القصر الملكي، وكنا نسلم على الملك الراحل الحسن الثاني، أنا وأختي (خديجة) ونغادر. هذه أمور أتذكرها جيدا، لكن لم يخبرني أحد مثلا أننا كنا نسلم على الملك أو ذاهبون للسلام عليه. بل كان يقال لنا إننا في الطريق للسلام على مدير والدي في العمل. كان هذا في وقت مبكر من الطفولة.. وبمجرد ما بدأنا نميز الأمور ويتشكل وعينا بما يحيط بنا، انتهى كل شيء.. خصوصا في كل ما يتعلق بي، فُرضت علي عزلة، ولم يكن أحد يعلم بأمري.. في ما بعد علمت أن والدي عبد الفتاح فرج كان يتحدث للمقربين منه عن ابنته فقط، ولم يكن
يتحدث عني.
لماذا يميز بينك وأختك (خديجة).. أنتما الاثنان تم تبنيكما في الفترة نفسها تقريبا. حكيت لي أنها تكبرك بسنة أو سنتين.. أود منك أن تتحدث لنا عن علاقتك بـ(خديجة)، في الطفولة أولا، وعلاقتكما بالوالد عبد الفتاح فرج..
كل ما أتذكره في الطفولة أننا كنا أخوين تماما مثل أي أسرة أخرى، مع والد كثير الانشغالات والسفر، منغلق على نفسه ولا يتحدث. لكنه كان يفضل (خديجة)، ويحدثها ويشجعها، بعكس علاقته بي. فمنذ بدأت أعي ما حولي وأنا أتلقى إما التجاهل التام أو التقريع. أتذكر مرة أنني أنهيت السنة الدراسية بتفوق، وجئت إليه مسرورا أحمل النتيجة النهائية، ولما أطلعته عليها، رماها في وجهي ببرود وقال: «صافي.. هادشي اللي كاين؟». كنت متفوقا على أختي (خديجة)، لكن والدنا شجعها وخاطبها بالفرنسية محفزا إياها على المزيد من التحصيل، علما أنني أحرزت معدلا
أفضل منها.
هذا الأمر فتح باب العداوة بينكما؟ كيف كانت علاقتك بـ(خديجة)؟
كانت علاقة عادية جدا، يجب أن أشير هنا إلى أن البيت كان محاطا بالصمت، أي أننا لم نكن نلعب كثيرا. كان كل شيء مرتبا بعناية، وهذا راجع بالأساس إلى شخصية والدتي، فهي ألمانية الجنسية والطباع. بعد العودة من المدرسة كنا نجد أنفسنا دائما أمام جدول مليء حيث حرصت الأم على تعليمنا الموسيقى، وجيء للفيلا بمدرس خاص لهذا الغرض. هذا المدرس ستربطني به علاقة طيبة في ما بعد، وسيحكي لي أمورا كثيرة عن طفولتي، لم أكن واعيا بها بحكم حداثة سني.. فقد كانت علاقته طيبة بوالدتي التي كان يناديها «الحاجة»، لأنها اعتنقت الإسلام عند زواجها بوالدي عبد الفتاح، وأخبرت مدرّس الموسيقى بجزئيات كثيرة تتعلق بظروف تبنينا أنا و(خديجة).
لنكمل أولا علاقتك بأختك..
لا شيء لدي لأقوله بخصوصها.. كنا كأي أخ وأخت، رغم التفرقة التي نهجها والدي عبد الفتاح فرج. فهي مثلا كانت تلقى معاملة ممتازة، فيما أنا أعيش على الهامش، إلى درجة أن غرفة نومي كانت حقيرة للغاية، رغم أننا كنا نعيش في المنزل نفسه، وندرس داخل المحيط ذاته.. تصور أن غرفة نومي كانت عبارة عن زاوية مهجورة، وهذا الأمر جعل الخدم والسائق والبستاني يتعاطفون معي جدا، لأنهم كانوا يرون الإقصاء الذي كنت أعيشه. لكن المشاكل بيني وأختي (خديجة) بدأت عندما كبرنا. فحين أُبعدت عن الأسرة في 1999 مباشرة بعد وفاة الملك الحسن الثاني، انقطع اتصالي بأختي، وفي ألمانيا، بعد رحيل عبد الفتاح فرج إلى هناك، ازداد التفكك في علاقتي بـ(خديجة) ولاحظت عليها اضطرابات كثيرة.
لا نود حرق المراحل.. ماذا حكى لك أستاذك عن تلك المرحلة؟
هو في الحقيقة لم يكن مثل بقية الأساتذة، لأنه كان يقدم لنا حصصا في الموسيقى لسنوات طويلة، أي أنه يعرف أشياء كثيرة عن العائلة، وحاز احترام والدي ووالدتي أيضا، ببساطة لأنه كان يشتغل بصرامة وانضباط. والديّ كانا دقيقين جدا، ويقدسان المواعد، والتزامه بها كأستاذ جعله مقربا نوعا ما من والدتي. أما والدي فقد كانت المرات التي سلم عليه فيها، معدودة على رؤوس الأصابع طوال سنوات، لأن عبد الفتاح، كما قلت لك، كان يحيط نفسه بسور سميك من الصمت، بحكم مهنته كمدير للكتابة الخاصة للملك الحسن الثاني.
حكى لي ما سمعه من والدتي شخصيا بخصوص لقائها بوالدي في ألمانيا وزواجهما، وكيف قررا الاستقرار في المغرب، واعتناقها للإسلام، ولقائها مع الملك الراحل الحسن الثاني، وكيف اقترح عليهما أن يحصلا على طفل ما داما لم يرزقا بأولاد بعد سنوات من الزواج.
سنعود لاحقا إلى ظروف لقاء والديك، لكن ماذا أخبرك أستاذك عن ظروف تبنيك أنت و(خديجة)؟
تقول والدتي، بهذا الخصوص، إن الحسن الثاني اقترح عليها ووالدي خلال اللقاء المذكور أن يحاولا ملء حياتهما الأسرية بتربية رضيع، وكانت الوجهة هي مركز لالة مريم، كان هذا في بداية الثمانينات تحديدا. تحكي والدتي أن العاملين هناك خصصوا لها استقبالا حارا، وحرصوا على أن يعرضوا عليها أجمل المواليد المتخلى عنهم، لكنها بقيت تتجول بين الأسرّة في المركز، إلى أن وقعت عيناها على رضيعة صغيرة كانت تعاني من المرض والوهن، وتبدو عليها معاناة كبيرة، فقررت أن تأخذها، رغم نصائح العاملين لها باختيار رضيعة من بين أجمل المواليد المتخلى عنهم.. لكن والدتي قررت أن تأخذ (خديجة).
ألم تخبركم عن سر الاختيار؟
(يضحك).. في الحقيقة يصعب شرح الأمر، لأنني أعرف شخصية والدتي جيدا، ومن الصعب فعلا الاقتناع بأنها ستختار رضيعة مريضة، لأن والدتي كانت مهووسة بالنظافة والدقة والانضباط. أتذكر كيف أنها كانت تصارح الناس، وتخبرهم أن عليهم الاستحمام. كانت تطردهم من الفيلا، مهما بلغت أهميتهم وتقول لهم بالفرنسية: «اذهبوا واستحموا أولا ثم عودوا إلينا.. شكرا».
هذه قصة تبني (خديجة)، ما قصتك أنت؟
بالنسبة لي، وحسب ما قالته والدتي وأستاذ الموسيقى أيضا، فإن الملك الراحل الحسن الثاني كان يتحدث إلى والدي ووالدتي، وينظر إلى أختي (خديجة). وأخبر عبد الفتاح أن عليه أن يحصل على ولد ذكر، حتى يستمر نسبه العائلي، وقال له إن الولد سيحمل اسم أبيه، ولن ينتهي نسب «فرج» بوفاة عبد الفتاح إذا كان لديه ولد يخلفه. وهكذا توجهت والدتي إلى مركز لالة مريم من جديد، بعد حوالي سنتين من تبنيهما لـ(خديجة).. هذه المرة كانت أختي تتجول بين أسرّة الرضع الجدد. وتحكي والدتي أن كل الرضع كانوا منخرطين في البكاء الحاد، باستثناء رضيع واحد كان يلعب بأطرافه في نشاط غريب، وهو ما جعل أختي (خديجة) تتوقف عنده، وتبدأ في اللعب معه. وطبعا كنت أنا هو ذلك الرضيع، واختارتني والدتي لأنها رأت كيف أن (خديجة) تمسكت بي واختارت اللعب معي من بين عشرات الرّضّع.
ماذا تعرف عن أسرتك الحقيقية؟ لا بد أن يكون هناك سجل ما يؤرخ للطريقة التي جئت بها إلى المركز..
عندما صرت شابا، توجهت إلى المركز الذي أخبروني أنهم جاؤوا بي منه، وسألت عن اسمي وأعطيتهم التاريخ الدقيق لقدومي إلى المركز واسم الأسرة (أسرة عبد الفتاح فرج) التي تبنتني، لكن الموظف اعتذر لي وأخبرني أن فيضانا ما أتلف الأرشيف، ولم يعد هناك أي شيء يفيد بخصوص أسرتي الحقيقية. وفي الحقيقة شككت لفترة في أن يكون الأمر مدبرا، فعبد الفتاح فرج لم يكن أبدا شخصا عاديا. نحن نتحدث عن رجل مهم في الدولة يشغل منصبا حساسا جدا، ولم أصدق أن تكون أوراقي أتلفت بالصدفة، وفي مراحل أخرى من حياتي أحسست بأن أناسا زُرعوا بجانبي ليعرفوا فقط فيم أفكر..
هناك سؤال مهم أيضا.. هل تتذكر متى تم إخبارك بقصة هذا التبني؟
كنت أحس دائما بأنني لا أنتمي إلى تلك الأسرة، لأن عبد الفتاح فرج لم يكن يعاملني جيدا كما أخبرتك. لكنني أتذكر اليوم الذي أخبرتنا فيه والدتي أننا لسنا ابنين حقيقيين لها.. كانت أمسية عادية، كانت والدتي تجلس في كرسي في البهو. استدعتنا (خديجة) وأنا، وبدون مقدمات قالت لنا: «أنتما لستما ابنينا الحقيقيين. لستما من رحمي، و(أشارت إلى بطنها)، وقد جئنا بكما صغارا..»، ثم صمتت دون أن تبدو عليها أي آثار للارتباك.
كم كان عمرك وقتها؟ وكيف استقبلت هذا الخبر المفاجئ؟
لم أكن حينها تجاوزت سنتي السابعة بعد. لم أقم بأي رد فعل، بل عدت مباشرة إلى ألعابي وكأن شيئا لم يقع. لم أعِ جيدا كيف أنني لست من رحمها أو بطنها كما أشارت. باختصار لم أهتم في ذلك الوقت، لكن أختي (خديجة) انخرطت في بكاء شديد وأصابها الهلع، وتركتها والدتي على حالتها إلى أن هدأت.
بالنسبة لي لم يتغير أي شيء، وبقيت الأمور على حالها.
هناك نقطة مهمة: قلت إن الحسن الثاني هو الذي اقترح على والدك أن يحصل على ولد.. فلماذا كان يكرهك؟
لا أعلم تحديدا سر كراهيته لي، أو جموده على الأصح، لأني كبرت وسط هذا الواقع. لكن والديّ كانا يتشاجران مرات كثيرة، وكان والدي يصرخ قائلا إنه لم يكن يرغب بي.. كان يقولها صراحة، فيما والدتي كانت تصرخ في وجهه: «كان عليك أن ترفض، ما كان عليك أن تقبل منذ البداية». أي أنها كانت تلومه على قبوله لاقتراح الملك ما دام لم تكن له رغبة في الحصول على ولد.
لماذا كانت والدتك تتشاجر مع والدك بهذا الخصوص؟ هل كانت تتعاطف معك؟
كل ما أعلمه أنها كانت تضغط عليه ليعاملني بشكل أفضل. هي صارمة جدا ولا تبدي رقتها بسهولة، لكنها في الخفاء كانت تختلف مع عبد الفتاح وتريد منه أن يعاملني جيدا، لكنه لم يكن يفعل.