شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرثقافة وفنحوار

حسن المودن للأخبار: لماذا لا تتحدثون عن أدبية النقد وشعريته؟

 

 أخْلص الكاتب والناقد المغربي حسن المودن للمنهج النفسي في قراءة النص الأدبي أثمر ذلك عدة أعمال نقدية مهمة، حيث اقترن اسمه مغربيا وعربيا بالتحليل النفسي وواصل جهوده في تجديد مفاهيمه ترجمة وتحليلا، خصوصا حين يعمد إلى الحفر في محكيات نادرا ما كان يقف عندها النقد السائد مثل محكي اليتم والانتساب العائلي… وغيرها من  الظواهر المتوارية أو الثاوية داخل الاعمال الروائية خصوصا. في هذا الحوار نتطرق إلى هذا المسار والقضايا النقدية المطروحة وإلى آخر إصداراته “من قال إنّ الناقد قد مات…”.

 

أثارني كتابُك “من قال إنّ الناقد قد مات…” لعدة أمور منها العنوان الذي أتى بصيغة غير  معتادة في الساحة النقدية المغربية والعربية. نحن هنا أمام سؤال عريض قد يسميه البعض  استفهاما إنكاريا. هل هذا الأمر قد قصدته عن عمد؟

 

ملاحظتك صحيحة، فهذا الكتاب الذي صدر هذه السنة ينطلق من سؤالٍ بصيغة استنكارية: مَنْ قالَ إنَّ الناقد الأدبي قد مات؟ وهو في الأصل درسٌ افتتاحيٌّ قدّمته في سنة سابقة بكلية آداب بني ملال، والشكر واجب لأساتذتها ومختبراتها وإدارتها. ولكن الكتاب إذ يستنكر هذا الأمرَ المُستفهَمَ عنه(موت الناقد الأدبي)، فهو يجدُ نفسَه أمامَ سؤال إشكاليٍّ يهيمن منذ عقود على جميع المجالات تقريبا في عصرنا الراهن: إنه سؤال النهايات( نهاية التاريخ/ نهاية الإيديولوجيا/ نهاية الإنسان/…)، لكنه وإنْ كان يأخذ بعين الاعتبار التحولات الكبرى التي يشهدها هذا العصر، وتستدعي نهاية العديد من الأشياء، فإنه- مع ذلك كله- يفترض أنًّ كلَّ نهايةٍ إلا وتعني بدايةً جديد.

وبالتأكيد، فهذا الكتاب هو بهذا الشكل أو ذاك ردٌّ على من يقول بموت الناقد الأدبي، والافتراض الأساس هو أن الناقدَ الأدبيَّ لا يموت ولن يموت أبدًا، وإنْ كان لا بد من موته، فهو يموت من أجل أن يحيى من جديد، من أجل أن يبتكر ويبدع ويتجدد ويظهر في صورة جديدة ومتجددة.    وبذلك، يأتي هذا الكتاب بعكس ما ادعته دراسات سابقة: فهو ضدّ ما أَعْلَنَهُ رونان ماكدونالد، سنة 2007، في كتابه: موت الناقد، وهو ضدّ رولان بارت الذي أعلن سنة 1968 عن موت المؤلِّف. لكن هنا لابد من توضيحات: أن تكون ضد موت المؤلِّف، هذا لا يعني أن تحتفظ بتلك الفكرة التقليدية عن المؤلِّف، وتمارس النقد البيوغرافي على الطريقة التقليدية، فأن تكون اليوم ضدّ موت المؤلِّف يعني أن تعيد المؤلِّف إلى الحياة، ولكن من خلال فكرة جديدة، من خلال نقد بيوغرافي بصورة مختلفة، من خلال نظرة جديدة إلى المؤلّف. وبالمثل، أن تكون اليوم ضد رونان ماكدونالد، مع كتابه: موت الناقد، معناه أن توضح أن هناك صور جديدة للناقد الأدبي تتأسس بدلا عن تلك الصور التقليدية. وبالمثل أيضا، أن تكون في الوقت الراهن ضد دومينيك مانغينو، الذي أصدر سنة 2006 كتابه: ضدّ سان بروست أو نهاية الأدب ( وكتابه هذا يستحضر كتاب مارسيل بروست:  ضدّ سانت بوف معلنًا أنه ضدّهما معًا)، معناه أنك تفترض أنْ لا نهاية للأدب، وإذا ما انتهى معنى الأدب كما تأسّس على مدى قرون من الزمن مع سانت بوف فمارسيل بروست ثم دومينيك مانغينو، فإن الأدب لا يكفّ عن تجديد معناه. وبهذا، فإن الجديد في هذا الكتاب- مقارنة بخطاب النهايات في النقد والأدب- أنه يكشف عن جوانب من هذا المعنى الجديد للأدب، للنقد، للناقد الأدبي، للمؤلِّف الأديب: أي أنه يريد أن يوضّح أن هناك بدايات جديدة بعد تلك النهايات إنْ سلَّمنا بوجودها، وأنه بَدلَ خطاب النهايات، سيكون من الأفضل بلا شك أن نتحدث عن خطاب البدايات.

 

يتفرع عن هذا السؤال سؤال آخر: نبرة الاستنكار لا تمسّ العنوان وحده، ذلك أن أطروحة الكتاب تسعى إلى تفنيد جملة من المفاهيم النقدية الرائجة في ساحتنا النقدية لمدة طويلة حتّى صارت أشبه بمفاهيم مطلقة. يبدو لي كما لو أنّ الكتاب برمته يريد الحسم مع مرحلة نقدية سابقة ويطمح إلى فتح أفق نقدي آخر، هل تتفق معي في هذا الاستنتاج؟

 

صحيح، ذلك هو هدف الكتاب، ولكن من دون ادّعاء أو تضخّم في الذات، فهذا اجتهادٌ متواضعٌ       يريد أن يشارك في تدشين آفاق جديدة بعد أن سلَّم البعض بأن النقد قد مات. وهنا لا بد من توضيحات وأمثلة – والمقام هنا لا يسمح بالكثير منها- تكشف أن هناك آفاقا جديدة تتأسس في النقد المغربي والعربي: قد نعود إلى النقد البيوغرافي التقليدي، لكن لن نشتغل به على صورته السابقة، لأسباب أساس، منها ما يأتي: ماذا ستضيف اليوم إذا قرّرت الكتابة عن حياة أبي نواس أو التوحيدي أو غيرهما، وقد قتلهما الباحثون والباحثات درساً وبحثاً؟ والسؤال الأكثر أهمية: هل نعرف كل شيء عن حياة كل كاتب وكل شاعر: هناك معلومات قليلة ومتفرقة، وهناك ثقوب وبياضات، وشكوك وأسئلة: أبو نواس أهو رائد التصوف العربي الإسلامي بشعره في الخمرة أم هو نقيض ذلك تماما؟ ماذا نعرف عن طفولة التوحيدي، ولماذا أحرق كتبه نهاية حياته، وما علاقته بليالي شهرزاد وهو صاحب ليالي الإمتاع والمؤانسة؟ وهل نعرف المتنبي حقّ المعرفة، غموض كبير حول طفولته ونشأته وأصوله، ولماذا كانت له الجرأة على أن يمدح نفسه أمام ممدوحيه؟ هذه أسئلة جعلتني أتساءل في هذا الكتاب: لماذا لم يلتفت الروائيون العرب إلى هذه الشخصيات الأدبية، فتلك البياضات في حيواتهم لا يمكن أن يملأها إلا التخييل، إلا عمل روائي… ولكن لأوضح شيئا آخر: لا بد من إدراج التخييل داخل الأعمال النقدية الجديدة: إذا أردت فكرة موسعة عن عصر أبي نواس، فمن الأفضل أن أبتكر شخصية شعرية، وسأسمّيها: أبو النواهية، وهي تجمع بين شاعرين من العصر نفسه، فلا يمكن أن أفهم روح هذا العصر إلا إذا جمعت بين أبي نواس وأبي العتاهية…ويمكن أم أجمع بين المتنبي الذي يجري وراء الحكم والمعري الذي يطارد الحكمة وهما من العصر نفسه، وقد أدرس الأعمى في الشعر العباسي، وأبتكر شخصية اسمها: أبو العلاء بن برد، وأدرس شعر العميان من بشار بن برد إلى أبي العلاء المعري…لكن هذا يحتاج إلى اشتغال التخييل داخل العمل النقدي… وإذا تحقق ذلك، فنحن لم نعد أمام الناقد التقليدي الذي كان ينعت بالمبدع الفاشل، فنحن أمام ناقد جديد، ناقد مبدع مثله مثل أهل الإبداع.. وإذا كان الناس يتحدثون عن شعرية الشعر أو أدبية الرواية، فإني أستغرب: لماذا لا تتحدثون عن أدبية النقد وشعريته؟

 

 كثيرا ما تتجاوز التصورات الفرويدية الشائعة في النقد النفسي للأدب في العالم العربي خاصة    في كتابك “الإخوة الأعداء في السرد العربي والغربي/ مقاربة نفسية جديدة” حيث تعتبر وظيفة الاخوة أهم من غيرها من الوظائف كالأم أو الأب… كيف تنير للقارئ هذه المقاربة الجديدة وفائدتها في مجال التحليل النفسي للأدب؟

أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، اخترت التخصص في المناهج النقدية، والمنهج النفسي على الأخص. والفضل يعود إلى أستاذي الكاتب الناقد المغربي محمد برادة بكلية آداب الرباط. أما الترجمة، فقد كانت دروسي الأولى في الترجمة بداية الثمانينيات بكلية آداب مراكش مع أستاذي محمد البكري. لكني تعلّمت الكثير في الترجمة من محمد برادة أيضا، فقد كان بحثي الأول معه في الدراسات العليا ترجمة لنص يعود إلى المحللة النفسية جوليا كريستيفا، وقبل أن أنتقل معه إلى التحليل النفسي التطبيقي لروايات الطيب صالح في دكتوراه السلك الثالث، ساعدني على ترجمة كتاب الناقد النفسي جان بيلمان- نويل، وهو كتاب تأسيسيٌّ بعنوان: التحليل النفسي والأدب. فيه تأريخ للعلاقة بين الأدب والتحليل النفسي، ويصاحب ذلك التأريخ نقدٌ وتقويمٌ، ليخلص إلى طرح نظرية جديدة: التحليل النصي الذي يدرس لاوعي النص وليس لاوعي الشاعر أو الكاتب. ما أريد أن أوضحه أني لا أترجم إلا الأعمال النقدية الجديدة التي أشتغل بها على مستوى التطبيق، فأضع القاريء أمام شيئين: التصور النظري المنهجي في مصدره الأصلي، والاشتغال التطبيقي كما أمارسه على الأدب العربي الحديث، وخاصة الرواية والقصة القصيرة…وذلك ما فعلته لما بدأت الاشتغال بنظرية المحلل النفسي بيير بيار، فقد ترجمت له كتابا، واشتغلت به تطبيقا…ولا يتعلق الأمر بتمرينات مدرسية على نظريات تعود إلى الآخرين في الغرب: فما يلاحظ على جان بيلمان- نويل شرقا وغربا أن جهازه المفهومي غير واضح بما فيه الكفاية، ويصعب تطبيقه في التحليلات النفسية للآداب، لكن هل يمكن أن أدّعي اليوم أني حاولت نقل تصوره النظري والمنهجي إلى مجال التحليل والتطليق، وعلى نصوص روائية عربية، في أكثر من كتاب ودراسة؟

من جهة أخرى، فما يتعلق في سؤالك بمحكي اليتيم والانتساب العائلي، يعود فيه الفضل إلى قراءاتي في النقد النفسي المعاصر، ولكن الفضل الأكبر يعود إلى الدرس الأول الذي تلقيته من التحليل النفسي: حسن الإصغاء إلى النصوص. وعلى سبيل التمثيل، فقد قرأت الأدب السردي المغربي الحديث في نصوصه التأسيسية والتجديدية والتجريبية أكثر من مرة- لأن إعادة القراءة درسٌ آخر تعلّمته من التحليل النفسي-، وكنت دائما ما أتساءل: لماذا لا يكتب المغاربة في الجنس السردي الخالص: الرواية أو السيرة الذاتية؟ لماذا هذا الخلط بينهما؟ ألأنهم فقراء في الخيال والتخييل كما يزعم البعض؟ ولماذا نجح المغاربة في العقود الأخيرة في التخلص إلى هذا الحد أو ذاك من هذه الظاهرة؟ من نص الزاوية للتهامي الوزاني إلى في الطفولة لعبد المجيد بن جلون ثم الغربة واليتيم لعبد الله العروي وصولا إلى أوراقه وإلى لعبة النسيان لمحمد برادة والأمر يتواصل إلى اليوم إذا استحضرت والد وما ولد لأحمد التوفيق، ونصوصا أخرى بلا شك… نصوصٌ أبطالها يتامى وكتّابها يتامى، فكيف أطالب اليتيم أن يكون نصّه بهوية أجناسية واضحة، والحال أن سؤال النسب والانتساب، سؤال اليتم، هو الذي يؤرقه؟ وبالمقابل، ألا يمكن الحديث عن محكي اليتيم بوصفه محكيا له خصائصه النوعية التي تميّزه؟… وفوق ذلك كله، وما دام الأمر يتعلق بالأدب المغربي الحديث، ألا يعني هذا أن الحداثة في الفكر والنقد والإبداع لا يمكن أن تتأسس إلا على اليتم؟

أمّا محكي الانتساب العائلي، فقد حاولت التأريخ للرواية العربية، ولاحظت أنها مرّت بمحطتين مركزيتين: محطة أولى أسميها محطة الرواية العائلية، وفيها نصوص  مكتوبة في الديار الغربية وعن هذه الديار، وفيها هذا “البطل” الذي يغادر دياره العربية في اتجاه باريس أو لندن أو غيرهما..وما يميز هذه الشخصية أنها تبقى معجبة ومندهشة أمام هذا العالم الجديد وتريد الانتماء إليه، وتأسيس حكاية عائلية جديدة في هذه الديار بديلا لتلك الحكاية العائلية الأصلية، ولكن هذا  “البطل” لا يستطيع الانفصال عن عالمه العائلي الأصلي أيضا، فيبقى منقسما بين عالمين، لا هو انتمى إلى العالم الجديد ولا هو انفصل عن العالم القديم…وتلك حكايتنا العائلية إلى اليوم. وهنا يمكن استحضار نصوص توفيق الحكيم ويحيى حقي وسهيل إدريس والطيب صالح… إلخ. لكن ما لاحظته هو أن هناك تحولا في الأدب السردي العربي من ثمانينيات القرن المنصرم وتسعينياته إلى اليوم: لم يعد هناك توجه نحو الآخر بذلك المعنى السابق، بل هناك حفر في أصول الذات ومساءلة للجذور وللآباء والأجداد، ويمكن أن أفترض أن شعيب حليفي بروايته: “زمن الشاوية”، ومحمد الأشعري بروايته: “جنوب الروح”، هما في افتراضي من المؤسسين العرب الأوائل لمحكي الانتساب العائلي في الرواية العربية المعاصرة.. واليوم هناك نصوص كثيرة مغربية عربية: روايات ربيعة ريحان وفوزية شويش السالم وسعد السنعوسي  وآخرين بلا شك. ولكن هناك كذلك نوعا من الانتساب العائلي أسميه: الانتساب العائلي الأدبي، والأمر هنا يتعلق بالانتساب إلى سلالة في الثقافة والفكر والأدب بعيدا عن الأصول المحلية الضيقة، ومؤسسه في الأدب المغربي والعربي هو محمد الشركي بنصوصه ورواياته، واليوم تتكاثر هذه النوعية من النصوص: “جيرترود” حسن نجمي و”العلامة” عند بنسالم حميش و”فيرجينيا وولف” عند لطيفة باقا ورجالات مراكش التاريخيين عند أحمد التوفيق… وهناك أسماء أخرى مغربية وعربية من دون شك…في الرواية كما في القصة، هناك أقلام مغربية وعربية تفوقت في كتابة ما أسمّيه التخييل الأوتو/ بيوغرافي، ويمكن أن أستحضر من المغرب لطيفة لبصير وعائشة البصري وفاتحة مرشيد  وأحمد البكري واسماعيل غزالي وعبد الكريم الجويطي… وأسماء عديدة من دون شك..

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى