حسابات إدارة بايدن وواقع المنطقة العربية
مروان قبلان
بعدما ظلت أياما تعد نفسها غير معنية بما يجري بفلسطين، رضخت إدارة بايدن للضغوط الداخلية، وتدخلت لإقناع إسرائيل بوقف العدوان على غزة، لكنها ذهبت بعد ذلك خطوة أبعد، وقررت إرسال وزير خارجيتها أنتوني بلينكن إلى المنطقة، لتثبيت وقف إطلاق النار. ولما كان الرئيس قد تجاهل الشرق الأوسط كليا تقريبا في خطاب حال الأمة، أثارت خطوته هذه تساؤلات عما إذا كانت تمثل تغييرا في سياسته. المطلع على فلسفة إدارة بايدن الخارجية، يجد أن مهمة بلينكن لا تعدو كونها محاولة لمنع حصول ما من شأنه حرف الانتباه عن احتواء صعود الصين، التي باتت الناظم الرئيس للسياسة الخارجية الأمريكية.
هذا التوجه يعززه تغير الأهمية الاستراتيجية لمناطق العالم في السياسة الأمريكية، فالولايات المتحدة تميل إلى التركيز على مناطق في العالم أكثر من أخرى؛ بحسب طبيعة المصالح التي تمتلكها فيها من جهة، والتحديات والأخطار التي تواجهها من جهة أخرى. ونظرا إلى أن كلا من المصالح والمخاطر متغيرة، فإن الاهتمام الأمريكي بمنطقة معينة يتغير وفقا لتغيرها. لقد انزاح مركز الاهتمام في السياسة الأمريكية من المسرح الأوروبي إلى المنطقة العربية بعد انتهاء الحرب الباردة، وخصوصا بعد هجمات شتنبر 2001، ثم باتجاه شرق آسيا بعد مجيء إدارة أوباما، وميله إلى التركيز على الصين بدلا من العالم الإسلامي. جاء هذا التحول نتيجة تغير طبيعة التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة، فبينما كانت الشيوعية ممثلة بالاتحاد السوفياتي وحلفائه مصدر الخطر الرئيس الذي يواجه أمريكا خلال حقبة الحرب الباردة، وكان مسرحه الرئيس أوروبا، غدا «الإرهاب» أهم مصادر الخطر التي تواجه المصالح الأمريكية، بحسب إدارة جورج بوش الابن؛ ما جعلها تنقل تركيزها للمنطقة العربية والعالم الإسلامي عموما. وعاد الأمر ليتغير من جديد مع انتقال الاهتمام إلى الشرق الأقصى، حيث باتت واشنطن تنظر إلى الصين بوصفها التحدي الاستراتيجي الرئيس للمصالح الأمريكية على مستوى العالم.
هذا يعني أننا أمام مرحلة تهدئة أو تجميد للصراعات في المنطقة، ويفسر ذلك كل التحركات الأمريكية الراهنة فيها، بما فيها جولة بلينكن، والتي تدور تحت عنوان تخفيف الالتزام الأمريكي في منطقة تعتقد إدارة بايدن أن نتائج الاستثمار فيها جاءت عكسية، إذ أدت محاولات التغيير إلى انهيار الاستقرار من دون أن يتحقق الرخاء أو الديمقراطية (لا أمن، ولا خبز، ولا حرية)، وأن الصين استغلت انشغال واشنطن بقضايا المنطقة لتصعد في غفلة منها. من هذا الباب، تسعى الولايات المتحدة إلى الانسحاب من أفغانستان، وإنهاء عقدين من التورط فيها، حتى لو أدى ذلك إلى تكرار سيناريو فيتنام، عندما سقطت سايغون، عاصمة الجنوب، بيد قوات الشمال الشيوعية بعد انسحاب الأمريكيين. وإحياء الاتفاق النووي الإيراني حتى لا تنجر واشنطن إلى مواجهة جديدة في الشرق الأوسط، مع إيران هذه المرة، إذا هي مضت في تطوير برنامجها النووي، وتخفيف التوتر السعودي – الإيراني من خلال إنهاء حرب اليمن، من دون أن يؤدي ذلك بالضرورة إلى حل الأزمة السياسية اليمنية، وتحقيق توازن تركي – إيراني -عربي (سعودي – مصري تحديدا) في المشرق العربي، بما يحول دون هيمنة أي طرف من أطراف هذا المثلث، والتركيز على الجانب الإنساني، في سوريا تحديدا، بعيدا عن أي حل سياسي، يحتاج وقتا وجهدا وموارد لا تبدو واشنطن مستعدة لبذلها في ساحة لا مصالح كبيرة لها فيها، والعمل على إعادة إعمار غزة وتقديم مساعدات اقتصادية للفلسطينيين في الأراضي العربية المحتلة، بما يحول دون انفجار الوضع فيها، والاستمرار في تشجيع عملية التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل، من دون الحاجة إلى حل القضية الفلسطينية. هذه هي عناوين سياسة إدارة بايدن في منطقتنا، وهي مصممة لخدمة استراتيجية التركيز على الصين، لكن التاريخ يقول إنه نادرا ما تطابقت حسابات مكاتب المسؤولين الأمريكيين مع واقع المنطقة العربية.
رضخت إدارة بايدن للضغوط الداخلية، وتدخلت لإقناع إسرائيل بوقف العدوان على غزة، لكنها ذهبت بعد ذلك خطوة أبعد، وقررت إرسال وزير خارجيتها أنتوني بلينكن إلى المنطقة، لتثبيت وقف إطلاق النار